يتوارى بين بنايات السويقة وقصبة قسنطينة العتيقة، يفتح ذراعيه لاحتضان زائرين ممن عشقوا مدينة سيرتا.. ببناياتها الشامخة، وجسورها الشاهقة، وأزقتها الضيقة، وكهوفها، وصولا إلى قصورها العريقة قصر أحمد باي، هذا المعلم الأثري الذي شهد جلسات محاكم وناقش رهان الساسة وخيار مقاومة الفرنسيس، الذين كان همهم الأول والأخير طمس هذا المعلم الأثري القيم. ولأننا كنا كالأبناء الضالين الذين عادوا إلى مدينتهم، في إطار مشاركتنا في فعاليات المهرجان الثقافي الثالث للشعر النسوي، الذي احتضنته مدينة الجسور المعلقة، فكنا كمن التقى بكتاب خرافي فهاب أن يتصفحه لكن الفضول انتهى بنا إلى نفض الغبار عن هذا الكتاب.. لتكتشفوا معنا بعض جوانبه... الحاج أحمد.. الخيانة ومنافع الزلزال تقول مرافقتنا الآنسة ”ن.ب”، وهي مرشدة بالقصر، إن هذا المعلم التاريخي كان مغلقا في وجه السياح الذين يتوافدون كل سنة من كل صوب لاكتشاف هذا المعلم التاريخي، وقد افتتح منذ أشهر قليلة نشاطاته في وجه الزوار، حيث ينظم خلال هذه الفترة وإلى غاية منتصف شهر نوفمبر المقبل، معرضا حول ”أهم العلوم الإسلامية العربية في العصر الذهبي”، ومعرضا آخر ل”الحضارة الفاطمية”، كما يعرض ببهو وأجنحة هذا القصر الكبير العديد من الآلات التي كانت تستعمل في تلك الفترة من أدوات جراحية، طبية، ريّ وغيرها من الوسائل التقليدية. وقبل أن تنطلق بنا رحلة اكتشاف القصر، فضلت المتحدثة أن تعطي للضيوف من المدن الجزائرية والدول العربية الشقيقة، نبذة عن حياة هذا الرجل الذي يحمل القصر اسمه.. إذ تقول إن ”أحمد باي واسمه الكامل أحمد بن محمد الشريف بن أحمد القلي ولد سنة 1786، وتوفيّ سنة 1850، تولى والده منصب خليفة في عهد الباي حسن، أما جده فهو أحمد القلي، وهو تركي الأصل، حكم بايلك الشرق لمدة تزيد عن 16سنة، أما والدته فهي جزائرية الأصل وتدعى الحاجة الشريفة، وهي تنتمي إلى عائلة ابن ڤانه أحد أكبر مشايخ عرب الصحراء مالا وجاها، تربى يتيم الأب، لذلك فقد كان يكنى باسم والدته، حيث كان يقال له الحاج أحمد بن الحاجة الشريفة. ارتقى الحاج أحمد إلى منصب خليفة في عهد الباي أحمد المملوك، واستطاع المحافظة على هذا المنصب إلى أن نشب خلاف بينه وبين الباي إبراهيم، حاكم بايلك الشرق الجزائري في الفترة ما بين 1820 و1821، ما أدى إلى عزل الحاج أحمد، وجعله يغادر قسنطينة متوجها إلى العاصمة، ثم مليانة ثم البليدة، التي شهدت في عهده حدوث زلزال خرّب المدينة وهدّمها في شهر مارس من سنة 1825، أين أدى دورا هاما في عملية إنقاذ هذه المدينة، وهو ما جعل قادته يرضون عليه، خاصة الآغا يحي والداي حسين، الذي عينه سنة 1826، بايا على بايلك الشرق سنة 1826، وهي الفترة التي شهدت فيها مدينة قسنطينة استقرارا كبيرا إلى غاية سنة 1837، وهو تاريخ سقوط قسنطينة في يد الفرنسيين، فرغم حنكته العسكرية الكبيرة، إلا أن الخيانة التي كانت تحيط به من قبل بعض رجاله جعلته يقع في قبضة هذا المستعمر الغاشم”. القصر الشاهد على الزمن الجميل وغير بعيد عن تاريخ هذا الرجل العظيم الذي يفخر كل قسنطيني بكونه ينتمي إلى مدينته، جالت بنا المرشدة في قصر أحمد باي الذي يعد إحدى التحف المعمارية الهامة بقسنطينة، حيث تعود فكرة إنشائه إلى عهد أحمد باي الذي تأثر أثناء زيارته للبقاع المقدسة بفن العمارة الإسلامية فأراد أن يترجم افتتانه بهذا الفن ببناء هذا القصر؛ الذي انطلقت الأشغال الفعلية لبنائه سنة 1827، وهو يمتد على مساحة إجمالية تقدر بحوالي 5600 متر مربع. والملاحظ أن هذا القصر يمتاز باتساعه ودقة توزيع أجنحته التي جاءت متساوية شكلا ومضمونا، وكان المهندس الذي أشرف على تصميمه وبنائه قد انتهى من بنائه سنة 1835، وشهد القصر بعد مغادرة أحمد باي له عدة محاولات تغيير وتعديل، خاصة أثناء المرحلة الاستعمارية؛ حيث حاولت الإدارة الفرنسية إضفاء الطابع الأوروبي على القصر من خلال إقدامها على طمس معالم الزخرفة الإسلامية والسيراميك. ويمكن لزائري هذا القصر الإستمتاع بالنقوش والزخرفة التي تبين البعد الحضاري الضارب في هذا المعلم التاريخي القيم، حيث يشتمل طابقه الأرضي عدة حدائق وفناءات رحبة كان الداي أحمد باي يستمع فيها إلى هموم وانشغالات سكان قسنطينة، كما يحتوي 121 غرفة و500 باب ونافذة مصنوعة من خشب الأرز المنقوش بمهارة، والمطلي بالألوان الفاتحة الحمراء الخضراء والصفراء. ويمكن للمتجول في أروقة القصر؛ أن يشاهد ما لا يقل عن 30 رواقا، تكمن مهمتها - حسبما أكده لنا العاملون فيه - بتسهيل مرور التيار الهوائي في مختلف أرجاء القصر، هذا ويشمل القصر أيضا على حوالي 250 عمود مصنوع من الرخام الأصلي. يحاط القصر ب5 أقواس تقابلها حدائق مفتوحة على مصراعيها لاحتضان الطبيعة، فيما يتوسط حوض كبير وسط هذا القصر، ويقال إن نساء أحمد باي كنّ يستجممن فيه بالمياه الباردة المتدفقة من أعلى القصر، والتي كانت في الغالب تتشكل كشلالات، كانت تمتد مياهها إلى أسفل القصر، أين كانت تعيش بعض الأسماك. أما الطابق العلوي من القصر، والذي لم تكتمل أشغال الترميم فيه بعد، فهو يؤدي إلى فناء كبير، هو الآخر بأروقة ذات أقواس، وشقق شبيه بالطابق السفلي، حيث تقول بعض المخطوطات إن أحمد باي أصرّ على أن تكون غرف القصر كلها متشابهة. وربما ما يميز الطابق الثاني هو غرفة فاطمة ابنة أحمد باي، التي تبدوا للعيان بأنها مختلفة عن باقي الغرف، كما تضيف المرافقة أن بالطابق العلوي الذي سيسلم مطلع السنة القادمة، غرف رحبة بجوارها حمام ذو هندسة مغاربية كان مخصصا للباي ونسائه. متحف للفنون والتقاليد الشعبية.. قريبا رغم محاولاتنا مع القائمين على القصر بغرض السماح لنا بالإطلاع على الجزء العلوي من هذا القصر، إلا أن كل محاولاتنا باءت بالفشل، بحجة أن تواجدنا في ذلك الجزء سيؤدي إلى تعطيل سير عمل الترميمات التي تحدث به منذ فترة، وهي تقام الآن بوتيرة متسارعة بهدف تسليمه في أقرب الآجال إلى السلطات المحلية للولاية، قصد فتحه كليا للزوار الذين يتوقون إلى اكتشافه. وللحديث عن هذا الجانب كانت لنا فرصة اللقاء بمدير الثقافة لولاية قسنطينة، جمال فوغالي، حيث صرّح ل”الفجر” أن القصر سيعرف ترقية ستمكنه من الوصول إلى مصاف متحف وطني للفنون والتقاليد الشعبية، على غرار متحف ”دار خداوج العمياء” المتواجد بالجزائر العاصمة، والذي يعد من أشهر المتاحف التي أنشئت بالجزائر. وقال المتحدث إن هذا القرار سيتم ترسيمه مباشرة بعد استكمال أشغال الترميم الجارية حاليا على مستوى هذا القصر، الذي افتتح الجزء الأرضي منه فقط، فيما لا يزال الطابع الأول منه قيد الترميم، ويتوقع أن يسلم هذا المعلم الأثري الهام مطلع السنة القادمة. ويضيف فغالي أن ”قصر أحمد باي يعد من أشهر المعالم الأساسية التي تعكس تاريخ العهد العثماني والوجود العثماني بالجزائر”، فهو يبرز حكاية ألف ليلة وليلة عبر ألوان متعددة تزين جدرانه على مساحة تزيد عن ألفي متر مربع. كما تسمح هذه التحفة المعمارية بقراءة وافية لمختلف الأحداث التاريخية التي ميزت مدينة الجسور المعلقة في تلك الحقبة من عهد أحمد باي الذي شهدت فيه قسنطينة أوج ازدهارها على كل الأصعدة، سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا، وفنيا. ورغم كل محاولات الفرنسيين في تشويه هذا المعلم الهام، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، والدليل على ذلك ما تقوم به المؤسسات الثقافية الوطنية اليوم، في عملية ترميم واسعة لهذا القصر. فرغم كل الصعوبات التي واجهة هذه العملية، في سبيل استعادة وجهه وتصاميمه الأولية. ورغم صعوبة المهمة إلا أن هذا المكان سيبقى الذاكرة الحية عن تاريخ هذه المدينة التي تنام على الصخور، ويمكننا القول في نهاية هذه الرحلة القصيرة في تاريخ هذا القصر أن مالك حداد صدق حين قال إن السماء لا تبدو زرقاء إلا في قسنطينة، ونحن نقول دام التاريخ ينبع من هذه المدينة العريقة، وعلى أمل أن تكون الترميمات التي تحدث بالقصر بمستوى تطلعاتنا اتجاه هذا المعلم التاريخي القيم.