عرف تاريخ الجزائر السياسي والثقافي والديني زوايا عظيمة كان لها دور أساسي في نشر الوعي الديني والثقافي، وتحرير البلاد من السيطرة الاستعمارية، كما كان لها الدور الكبير في الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية ومقومات الشخصية الوطنية. وانتشرت هذه الزوايا انتشارا واضحا، سواء في الأرياف أو في المدن، وعمت كل جهات الوطن تقريبا، خاصة الغرب والوسط، كما انتشرت في منطقة القبائل انتشارا كبيرا، خصوصا بعد الاحتلال الإسباني لمدينة بجاية. فشكلت بذلك حجر أساس ومنبر اشعاع في بناء المجتمع الجزائري، بفضل عراقتها ومحافظتها على الأصالة والتراث، والدور التربوي والروحي الذي قامت بتأديته قرابة أحد عشر قرنا من الوجود عبر مراحل عسيرة مرت بها بلادنا، ولا ينكر هذه الأدوار وهذه المكانة إلا جاحد أو جاهل. ومن بين هذه الزوايا العالمة المجاهدة زاوية الشيخ عبد الرحمن باش تارزي بقسنطينة. تقع الزاوية بمدينة قسنطينة، أسسها الشيخ عبد الرحمن باش تارزي بأمر من شيخه محمد بن عبد الرحمن الأزهري، في نهاية القرن الثامن عشر. وتعتبر من زوايا الطريقة الرحمانية الأولى تأسيسا، كما تعد أم جل الزوايا بالشرق الجزائري وبجنوبه. والشيخ عبد الرحمن باش تارزي، من أشهر رجالات الطريقة، وناشرها بالناحية الشرقية من الوطن. ومؤسس أسرة باش تارزي الأسرة العلمية الطرقية المجاهدة الشهيرة بالشرق الجزائري، وصفه الشيخ الحفناوي في كتابه الشهير "تعريف الخلف برجال السلف" بقوله: "أحد أركان التصوف علما وعملا وزهدا وتحقيقا ورئاسة وجلالة، كان وحيد دهره علما وحكمة واتقانا وإصلاحا". تفقه على المذهب الحنفي، وألمّ بالمذهب المالكي فكان على دراية واسعة بهما معا، وسلك طريق التصوف على يدي الشيخ الأزهري، ومن مؤلفاته: "عمدة المريد في بيان الطريقة"، و"غنية المريد في شرح كلمة التوحيد"، و"المنظومة الرحمانية"... وغيرها من المؤلفات والرسائل. تخرج على يديه جمع كبير من التلاميذ منهم: الشيخ محمد بن عزوز البرجي ناشر الطريق في الجنوب الجزائري، والشيخ محمد بن الحبيب القسنطيني، والشيخ محمد السياري القسنطيني... توفي الشيخ باش تارزي عام 1807م، بقسنطينة ودفن بها. بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن خلفه ابنه العلاّمة الشيخ مصطفى بن عبد الرحمن باش تارزي (ت 1836م). وهو من كبار رجال الطريقة الرحمانية، وشارح "المنظومة الرحمانية" لوالده الشيخ عبد الرحمن باش تارزي. ومما جاء في وصفه: "هو الشيخ الإمام العلامة نخبة الفضلاء وواسطة عقد النبلاء وواحد العلماء الأعلام...". تولى الفتوى الحنفية ثم القضاء، ثم الخطابة بجامع سوق الغزل ثم بجامع القصبة ثم بالكتاني. ومن آثاره العلمية: "المنح الربانية في بيان المنظومة الرحمانية"، و"رسالة تحفة الناظرين" في الوقف... وغيرها من المؤلفات. توفي الشيخ مصطفى عام 1836م بقسنطينة ودفن في المقبرة العليا بسوق الغزل، ويسمى الممر باسمه "ممر باش تارزي". وجاء بعده ابنه الشيخ محمود. ثم خلفه ابن عمه الشيخ محمد بن محمد بن عبد الرحمن، ثم جاء بعده الشيخ الحاج السعيد بن أحمد باش تارزي (ت 1911م). وخلفه على رئاسة الزاوية الحاج أحمد باش تارزي (ت 1917م). ويتولى مشيختها حاليا الأستاذ الفاضل محمد الشريف باش تارزي من سلالة العلامة الشيخ عبد الرحمن باش تارزي. ساهمت الزاوية في إضفاء نوع من المهابة والجلال على الطريقة، إذ عرف عن الشيخ باش تارزي تمكنه من العلوم الشرعية، وأصله الشريف، وتوليه منصب القضاء، وثرائه، وهو أمر لم يتحقق لكثير من الفروع. فكانت زاويته مركزا لاجتماع علماء الحنفية والأتراك منهم، ومقرا لنشر الطريقة الرحمانية لدى أهل الحضر قسنطينة والضواحي. كما كانت حلقة وصل بين بلاد القبائل والزوايا الجنوبية، ونشرت الطريقة بالشرق الجزائري. وساهمت الزاوية في النقاش الدائر في آخر العهد التركي حول العلم الباطن والعلم الظاهر. وحاربت الفساد الأخلاقي الذي انتشر في المنطقة. دعت إلى النهوض بالبلد، وتوحيد الصف. وكان للزاوية فروع ومقدمون، وحسب إحصاء "ديبون وكوبولاني" فإن أتباع الزاوية بلغوا في آخر القرن التاسع عشر: أكثر من عشرة آلاف مريد، ولها ثماني زوايا، ووكيل واحد و25 أستاذا، وشيخ واحد و85 مقدما، و104 من الشواش، ومعظم هؤلاء الإخوان كانوا في إقليمقسنطينة. وبعضهم كان في إقليمالجزائر. ساهمت الزواية في ثورة الرحمانيين سنة 1864م، حيث هاجم أتباعها قوات الجنرال "بريڤو" حاكم مقاطعة قسنطينة بالوادي الكبير، واستمرت الثورة إلى غاية 1865. كما شاركت في ثورة التحرير الكبرى عن طريق أبناء الأسرة الذين التحق عدد كبير منهم بالجبال واستشهد منهم كثيرون منهم الزبير باش تارزي. وعن طريق مريديها وأتباعها الذين تولوا مسؤوليات كبرى في الثورة المظفرة على رأسهم عبد الكريم باش تارزي مسؤول في جبهة التحرير في تونس أثناء الثورة. هذه وقفة مع زاوية الشيخ عبد الرحمن باش تارزي، التي لا تزال تعمل على نشر قيم التسامح والمحبة والأخوة، ونشر الفضائل والأخلاق الإسلامية من الاحترام والتقدير وعدم الإساءة إلى الآخرين وإعطاء كل ذي حق حقه، وتسعى من خلال ما تقوم به من أعمال إلى الحفاظ على المرجعية الدينية في الجزائر، في عقد الأشعري وفقه ومالك وفي طريقة الجنيد السالك. شعارها في ذلك كله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.