إن أسمى ما يمكن أن يقدمه الانسان في الحياة أن يضيف شيئا جديدا للانسانية، أن يسعى للارتقاء بفكر وإحساس البشر، وأن يسمو به إلى عالم أرحب يملؤه الحب والخير والجمال... وعلى مدار التاريخ كانت هناك وجوه أسهمت قي الارتقاء بالانسان، ووهبت حياتها لخيره ورفعته ورقيه، كما كانت هناك وجوه تنظر دائما في المرآة فلا ترى سوى نفسها، وستظل الانسانية تدين لمن وهبوا حياتهم من أجل رقي الانسان وتطوره، وستظل أعمالهم الرائعة في ذاكرة الانسان تكشف لنا أسرارها وتطلعنا على ما قدموه من إبداع وأعمال أثرت الحياة الثقافية والفنية للانسان والانسانية. من منا لم يسمع يوما عن "البيت الكبير"؟، من منا لم تأسره "الحريق" بفصولها التي تنبأت باندلاع الثورة التحريرية المجيدة بعد ثلاثة أشهر فقط من صدورها، ومن منا لا يعرف ولم يقرأ للأديب والمبدع العربي الوحيد الذي رفض جائزة نوبل للآداب، بعدما أن طلب منه المشرفين على هذه الجائزة القيمة تغيير اسم "محمد"... إنه ابن جوهرة الغرب الجزائري محمد ديب الذي قال "لا" لنوبل متمسكا بمبادئه، وأفكاره النضالية التي تربى عليها وزرعها في قلب كل من وطأت قدماه أرض المليون ونصف المليون شهيد ، هذه الأرض الطاهرة التي شهدت ميلاد عميد الرواية الجزائرية في تلمسان عام 1920، من هنا بدأ نضال مثقف تحدى الفقر واليتم ليكون كبيرا بمثابرته في مواصلة تعليمه في مسقط رأسه ، ولما بلغ سن التاسعة عشرةاشتغل بالتعليم ثم انتقل للعمل في السكك الحديدية، وبعدها في المحاسبة فالترجمة، فمصمما للديكور ثم حرفيا في النسيج... ليشد العزال سنة 1948 نحو الجزائر العاصمة، أين التقى بالكاتب الفرنسي الجزائري الكبير ألبير كامي ومولود فرعون، ليزداد اهتمامه بالكتابة والتأليف، فاشتغل صحفيا في جريدة "الجزائر الجمهورية" رفقة الكاتب الكبير كاتب ياسين، وكان معروف عن ديب مناهضته لتواجد الاستعمار الفرنسي في الجزائر فنفي بسبب ذلك، إلا أنه كان حريص على مواصلة نضاله وكفاحه فكان يؤازر شعبه بكتاباته في المهجر، ولم يعد إلى أرض الوطن إلى أن استعادت الجزائر حريتها من أيادي الاستعمار الغشيم، وفي عام 1963 تقلد جائزة الدولة التقديرية للآداب... لم تنحصر موهبة محمد ديب في االرواية فقط بل تعدتها إلى الرسم والتصوير، فقام برسم العديد من اللوحات التي عبّر منخلالها عن أفكار يصعب التعبير عنها بالكتابة وحاز على الجائزة الفرانكفونية سنة1994 عن سلسلة تلمسان التي تحوي الكثير من الصور الفوتوغرافية عن معالم عاصمة الزيانيين، التي تزينت هذه السنة بتظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية. وحتى رحيله ظلت مواقف ديب مجهولة على الكثيرين، بسبب محاولة البعض تشويهمسار هذا الكاتب الكبير بإلصاق التهم والأفكار الجاهزة بمساره، ومن بين تلك التهم عداؤه المفتعل للغة العربية التي قال فيها: "إن أخيلتي وتصوراتي نابعة من اللغة العربية، فهي لغتي الأم، إلا أنها مع ذلك تعتبر موروثا ينتمي إلى العمق المشترك. أما اللغة الفرنسية فتعتبر لغة أجنبية مع أني تعلمت القراءة بواسطتها، وقد خلقت منها لغتي الكتابية"، وقد ظل عملاق الرواية الجزائرية متمسكا بمواقفه النضالية والوجودية وطروحاته الفلسفية التي كانت تحظى باقبال كبير لدى القراء إلى أن وفته المنية في الثاني من شهر ماي 2003، مخلفا ورائه أكثر من 30 مؤلفا منها 18 رواية وثلاث مسرحيات آخرها "ألف مرحى لمومس" عام 1980، إلى جانب ترجمته للكثير من الأعمال باللغة الفنلدية إلى الفرنسية.