كان يوما مشئوما بالنسبة لي، وبالتأكيد بالنسبة للكثيرين ممن عرفوا العقيد الراحل علي تونسي، المدير العام للأمن الوطني ، أو الذين احتكوا به وتعاملوا معه. نعم، لأني لم أصدق في البداية بأن "عمي علي" الرجل الطيب قد انتهى وفارقنا للأبد، ربما لأن لي قصة خاصة سمحت لي بتكوين نظرة واضحة عن الرجل. لم أرد في البداية أنم تؤول قصتي للنشر، لأني أردتها تذكارا شخصيا وتجربة أضافت الكثير لي، لكني قررت في الأخير أن أقول شيئا عن الرجل الذي يستحق أكثر من الكلمات سبب رغبتي في سرد قصتي مع "عمي علي"، هو ما قرأته في تصريحات بعض الأشخاص كانت أغلب التعليقات تَشهَد للرجل بدوره وتُشيد بمهمته النبيلة، لكن كانت أيضا تعاليق قليلة للغاية تتشفى في الرجل، بعبارات لا تصلح لتوديع الأبطال الذين يعتبر "العقيد علي تونسي" واحدا منهم. تلك التعليقات التي تدلُ أيضا على شيء مهم: وهو أن موت الشجعان يثير دوما حفيظة الجبناء، ونحن تعودنا على الصبر وامتحان البلاء أمام من يريدون للجزائر عصورا من الظلام. مع أن هنالك ملاحظة بالموقع المذكور تشير إلى عدم استعمال عبارات القدح والذم، لكن كل شيء مسموح به من أجل التشفي في أبطال الجزائر. رجعت للبيت، لم أتناول شيئا، بقيت لمدة طويلة أتناقش مع زوجتي إن كان لا بد من قص قصتي، وإرسالها لوسائل الإعلام، لكن زوجتي عارضت بجملتها الوحيدة التي كررتها لعديد المرات:"بأن قصتي لن تضيف شيئا للرجل".. لكني آمنت بأن كلماتي لا بد لها من منفذ، ولا بد أن أحكي قصتي أخيرا. قررت أن أقول الأشياء التي أعرفها بثبات عن الرجل، كأني أَرُد له الجميل، وأتخلص من عبء القصة التي لا بد من حكايتها أخيرا. القصة التي تحمل شيئا مهما بالنسبة لي. في عام 2008، حدثت مناوشات بيني وبين شرطي في الجزائر العاصمة، وتطور الوضع خاصة بعد أن تقدمت بشكاوي لم تأت بحل سريع كنت آملة. نصحني أحد أصدقائي بالذهاب للمديرية العامة للأمن الوطني، فهناك تحل المشاكل بصرامة في إطار القانون. كنت خائفا من أن يتطور مشكلي الصغير إلى ما تحمد عقباه، من أجل ذلك قررت المغامرة. قررت ملاقاة العقيد علي تونسي لأشكوه حالتي فكان لي ذلك هكذا قررت الذهاب للمديرية العامة للأمن الوطني، وعند وصولي طلبت مباشرة أن أقابل المدير العام للأمن الوطني لأمر هام، ورغم محاولات الضباط هناك الاستفسار عن الأمر الهام الذي يستدعي مقابلة المدير العام شخصيا، إلا أنني رفضت، تم توجيهي لضابط سام، لكنه فشل أيضا في إقناعي بالبوح بسبب رغبتي في مقابلته شخصا. لكن ذلك بدا مستحيلا أما رفض المسئولين الذين قابلتهم، بعد أن ألحوا علي بأن أحترم القانون الداخلي في التعامل مع الشكاوي... وأمام رفضي مغادرة المقر، شك الجميع بأني أريد إثارة المشاكل. حاول الأعوان صرفي وإخراجي من المقر، إلا أنني أحدثت بلبلة كبيرة وبدأت في الصراخ بأن من حقي مقابلة "علي تونسي" شخصيا... مما استدعى تدخل مجموعة من الأعوان لتهدئتي، إلا أن صوتا رخيما صدر من المدخل :"خَلوه ... "، كان السيد علي تونسي شخصيا يهم بدخول المقر. أدى الجميع التحية له، بينما وقفت لا أعلم الأشياء التي يجب القيام بها اقترب مني وقال لي : "ما هي مشكلتك" .. ترددت في الإجابة، حاول أحد الضباط الإجابة في مكاني، فما كان من "السي علي" إلا أن أشار عليه بالسكوت. قبل أن يضيف: "جيبوه للمكتب"، بعد عشر دقائق كنت في مكتب العقيد علي تونسي، ولم أعرف كيف أبدأ بعد أن نصحني الأعوان بأن لا أطيل في الحديث لأن وقته محدود. لم أكن أعرف شيئا عن البروتوكول، كما لم أعرف كيف أناديه أيضا. قلت جملة طويلة فيها الكثير من التعابير الكلاسيكية قبل أن أبدأ "سيدي المدير العام للأمن الوطني"، لكنه غرق في قهقهة عالية، قبل أن يجيبني بأنه لا داعي للتكلفة فيمكنني الحديث بعبارات عامية. ناديته "عمي علي" فإبتسم في وجهي ضاحكا سردت عليه مشكلتي، واستعملت في بداية كلامي جملة "عمي علي" لأني لم أجد في قاموسي الشعبي كلمة أخرى لأبرز من خلالها احترامي له، كان يبتسم من حين لآخر، بعد أن دون بعض المعلومات عن عنواني ورقم هاتفي، وطرح علي أسئلة عن سبب مشكلتي. صارحته بأني لا أعرف كيف يتكلم الناس مع المسئولين الكبار، وبأنني أعتذر إن قلت كلاما خارج الموضوع، لكنه أجابني بالحرف الواحد "الكبير ربي، وإحنا كامل زوالية". جلست مع "عمي علي" حوالي عشرين دقيقة كانت كافية بالنسبة لي لأكتشف الوجه الإنساني للرجل، بعيدا عن البروتوكولات والحواجز التي تحيط بالمسئولين في العادة، كان مستمعا جيدا، بل تبادلنا الحديث عن أشياء أخرى، وقص علي قصة حدثت له شخصيا منذ زمن بعيد حتى يُخفف من روعي ومن حدة مشكلتي. كان مُلما بتفاصيل الحياة البسيطة للناس وصارما في نفس الوقت، كانت الجملة الأخيرة التي قالها: "سأتكفل شخصيا بحل مشكلتك، هدفنا هو تحسين عمل الجهاز الأمني ويجب أن تساعدونا.. كل إهانة لمواطن أعتبرها إهانة شخصية لي". لكنني أصررت على أن يتم حل المشكل لأنه أصابني بقلق مستمر، قبل أن يبتسم ابتسامة لا يمكن نسيانها، مؤكدا في نفس الوقت بأن المشكل سيُحل بسرعة. مرت ثلاث أيام بعد ذلك، ودب يأس بداخلي من أن مشكلتي لن تُحل أبدا، لكنني تفاجأت بأعوان من الشرطة يتصلون بي في الساعة الخامسة مساء ويطلبون مني التوجه فورا لمقر الشرطة. في الحقيقة خفت في البداية، تشجعت قليلا واتجهت للمقر. في المدخل التقيت بالشرطي سبب مشكلتي، خشيت أن يحدث أمر ما، لكن الضابط المسئول عن المركز رحب بي، وتوجهنا معا إلى مكتبه الشخصي برفقة الشخص الذي اشتكيت من تصرفاته. وعدني فأوفى بوعده أمام إستغراب الضباط و أعوان الأمن تفاجأت بداخل المكتب بوجود "عمي علي" الذي قفزت باتجاهه وقبلته بحرارة أمام استغراب الجميع الذين لم يفهموا شيئا، كنت أردد دوما كلماتي "راك مليح عمي علي؟" وسط استغراب الحضور الذين اعتقدوا بأن علاقة قرابة تجمعني به. ضرب على كتفي وقال لي "لقد جئت كما وعدتك لحل المشكل شخصيا"، استمع فيما بعد للمسئول وللشرطي، ولي أيضا، واتخذ قرارا مريحا للجميع. ونصحَ الشرطي بأن ينتبه لتصرفاته لاحقا وبأن يتصرف في إطار القانون فقط، انتهت بالفعل مشكلتي منذ ذلك الحين، لكن بدأ حب واحترام كبيرين ل:"عمي علي". أرسلت له رسالة اشكره فيها على تدخله الفعال وأجابني بعد عشرة أيام برسالة محترمة ذكرني فيها بأن الأمن الوطني في خدمة المواطن، وأرسلت له رسالة تهنئة بمناسبة عيد الأضحى المبارك، ورد علي بتاريخ 10 ديسمبر2009، شكرني فيها على التهنئة، وكتب في آخر الرسالة بخط يده "مع فائق التحية". أردت زيارته لكن كثرة عمله منعته من ذلك كنت أود رؤية "عمي علي" مرة أخرى، لكن علمي بثقل مسؤوليته منعني من التجربة مرة ثانية. هكذا انتهت قصتي مع رجل لا يمكن سوى أن نُحبه من أول لقاء، بابتسامته الواسعة وفطنته الخارقة، انه رجل من الأبناء البررة للجزائر. مسئول يحب الوطن حقا بينما يكرر جمله المهمة عن الواجب المشترك بين الموطنين وأفراد الأمن العمومي وضرورة التعاون بين الطرفين لتغيير الوضع الراهن. بكيت لفقدان "عمي علي" أمام دهشة جميع أفراد عائلتي، الذين لا يعرفون قصتي مع هذا الرجل، صليت بخشوع بالغ ودعوت له بالرحمة والغفران وأن يسكنه الله فسيح جنانه. لم أقابل في حياتي مسئولين كبار، كانت لقاءاتي تنحصر في مقابلة رئيس البلدية وأحيانا إن كنت محظوظا رئيس الدائرة، كان "عمي علي" أكبر مسئول رسمي أقابله في حياتي، لكني اكتشفت كم هو عظيم هذا الرجل، كم كبير قلبه، كم هي مدهشة أحلامه خاصة عندما يتحدث عن فكرة الأمن والعلاقة التي يجب أن تكون بين موظفي الأمن والمواطنين. قلت له : شبهتك بالرئيس الراحل هواري بومدين فضحك طويلا أتذكر جيدا الجملة الأخيرة التي قلتها له عندما قام بحل مشكلتي: "شبهتك بالرئيس الراحل بومدين".. لكنه غرق في ضحكة طويلة قبل أن يسألني عن السبب، فأجبت لأن الرئيس بومدين كان يتنقل أحيانا لحل بعض مشاكل المواطنين بصفة شخصية. صمت قليلا قبل أن يضيف: "هكذا، ولستُ متأكدا من تأدية واجبي على أتم وجه"... الوداع "عمي علي"... الوداع ويالك من محظوظ لأنك غادرتنا في يوم جمعة مبارك سيحتضنك برفق، ونحن أعلم بالكرامة التي تعني أن يدفن إنسان في هذا اليوم المبارك. رحمك الله "عمي علي" وأسكنك فسيح جناته... فالأبطال يغادرون العالم دوما بذكرى طيبة.