يعيش الجزائريون على غرار الأمة الإسلامية جمعاء نفحات شهر ربيع الأول، الذي كرّمه الله بمولد خير الخلق فيه محمد صلى الله عليه و سلم. و يكنّ الجزائريون لهذه المناسبة قيمة عظمى، و ذلك بالاحتفال و الفرح و بشتى العبادات و مختلف الطاعات، رجاء الظفر برضا الله و الرسول و نيل حبّهما . محمد بن حاحة أجواء تنافسية شوقا للنبي في مولده وتختلف طقوس احتفال الجزائريين بهذه المناسبة من منطقة لأخرى، فكل منطقة تتفنّن في التفرّد بطابع احتفالها و الإبداع لأقصى الحدود، وللتعرّف على طابع الاحتفال في مختلف ربوع الوطن، تنقل "الجزائرالجديدة" لكم طقوس الاحتفاء بهذه المناسبة المقدّسة من شتى المناطق الجزائرية . العاصمة .. ليلة بيضاء في " بلاد سيدي عبد الرحمان" للفرح بمناسبة المولد النبوي في الجزائر العاصمة و التي تدعى "بلاد سيدي عبد الرحمان" كما يسميها أهلها تبركا بوليها الصالح "سيدي عبد الرحمان الثعالبي" طابع احتفالي خاص، إذ أن كل العائلات العاصمية في ليلة المولد تشعل الشموع و تعطّر بيوتها بأعواد العنبر و البخور ، كما تحضر لعشاء المولد المشتمل على أطباق تقليدية ك "الرشتة" أو "الفطاير" و هي أوراق مصنوعة من السميد، و التي يتم لفّها لتبح على شكل مربّعات ، ثم يتم سقيها بمرق أبيض يطبخ بالحمص و اللفت و هو مرق الرشتة نفسه، فيما تفضل بعض العائلات تحضير طبق "الكسكسي"، الذي أصبح في ثقافة الجزائريين المرافق لجميع أفراحهم و أحزانهم ، إذ يقدمونه في الأعراس كما يقدمونه كذلك في الجنائز. و في المساء يفضل بعض الشباب و الرجال الذهاب للمسجد ، أين يرتل القرآن و تقرأ كتب السيرة النبوية العطرة و الشمائل المحمدية، و بعض القصائد المنظومة في حب النبي و أخرى خاصة بمولده ، فيما يذهب آخرون إلى ضريح الولي الصالح "سيدي عبد الرحمان" لمدح النبي و الصلاة عليه أفرادا و جماعات، في جو معطّر بعود العنبر ، و على ضوء الشموع التي يشعلها الزائرون بمجرد دخولهم إلى المقام، و تقدم هناك بعض النساء الملازمات للمقام بعض الحلويات و التمور ، أو تحضر قصعة كسكسي يجتمع عليها الحضور و الفقراء، و تعطى الصدقات للمحتاجين ، أو توضع في صندوق التبرّع للضريح . و في الليل بينما يكون النساء قد انتهين من تنظيف البيت و تحضير وجبة العشاء، يجتمع كل أفراد العائلة صغارا و كبارا على مائدة عشاء المولد ، و الفرحة بهذه المناسبة تملأ صدورهم ، و الابتسامة لا تفارق محياهم. بعد الانتهاء من تناول العشاء، تحضر النساء الشاي و القهوة و "الطمينة" التي تحضر بالسميد المحمص و الزبدة و العسل و تزين بالقرفة ، فتقدم في السهرة مع الشاي و المكسرات و تشعل الشموع و العنبر، لتواصل العائلة السمر في جوّها ، و على أنغام المدائح التي تتغنى بها النساء في حبّ الرسول و الفرح بازدياده و ذكر خصاله ، كالقصيدة التي مطلعها "زاد النبي و فرحنا بيه صلى الله عليه" و غيرها من القصائد الخاصة بالمولد ، و التي تنشدها النساء و العجائز على إيقاع الدف "البندير" و الطبل أو "الدربوكة" و تزين أيادي الأطفال و النساء بالحناء ، وللأطفال العاصميين طريقتهم الخاصة في الاحتفال بالمولد ، إذ يحتفون به على صوت انفجار المفرقعات و الألعاب النارية، و هكذا تتواصل الأفراح العاصمية بهذا المولود العظيم حتى صباح الغد . هكذا تفرح أدرار بميلاد النبي صلوات الله و سلامه عليه لمدينة أدرار على مرّ الزمن، السبق في استقطاب الأولياء و الصالحين ، و يطلق عليها اسم أرض "توات" لأنها مواتية للعبادة، و لهذا صارت منذ عصور مضت ، قبلة للعبّاد و الزهّاد و المحبين لله و رسوله، و هذا ما كان سببا في إعطائها خصوصية فريدة من نوعها في الاحتفاء بالنبي و الفرح بمولده، و تبقى للطقوس التي يمارسها سكان أدرار في الاحتفال بالمولد النبوي ، ميزة خاصة منفردة على العالم الإسلامي بأسره . فمع حلول شهر ربيع الأول يؤجل أهل أدرار جميع انشغالاتهم إلى ما بعد المولد أو يلغونها تماما ، و حتى الغائب أو المسافر أو التاجر، كل هؤلاء يرجعون للمنطقة لا محالة، فالمولد بالنسبة لهم حدث عظيم بل مقدس ، و يركز الأدراريون على إحياء الليالي الإثناعشر السابقة لمولد النبي عليه الصلاة و السلام ، و التي يقرؤون فيها أربع قصائد في مدح خير خلق الله، أوّلها تخميس القصيدة الوترية في مدح خير البرّية و التي يقال في مطلعها : صلاتك ربي و السلام على النبي صلاة بطون الأرض و الجو تملأ ويختلف عجزها 26 مرة حسب الحروف الهجائية ، و التي تعلن في كل مرة تتغير قافيتها، عن فصل جديد ينشد بلحنه الخاص ، وتقرأ بمعدّل أربعة حروف في الليلة بين المغرب و العشاء . و تسمى القصيدة الثانية "المعشّرة" و مطلعها هو نفسه مطلع قصيدة البردة الشهيرة : مولاي صل و سلم دائما أبدا على حبيبك خير الخلق كلهم ثم تأتي بعدها الهمزية للبوصيري و تختم بالبردة أو البرأة لنفس الشاعر . و حين يتبقى بعضا من الوقت، فإنه يستغل لقراءة الورد القرآني، أو ما يسمى ب "الحزب الراتب" ، و هو عبارة عن قراءة جماعية في قعدة لا يغيب عنها الشاي وبعض الأكلات الشعبية ، التي تقدمها النساء مصحوبة بالزغاريد. و بعد الانتهاء من القراءة و العشاء ، ينشد الأطفال قصيدة مطلعها : يا ماسعد طيبة بقدوم محمد و الجنة فارحة بمحمد وهكذا تتكرر عادة سكان أدرار طيلة الأيام الإثنا عشر ، حيث يكون الجميع قد أنهوا قراءة القصيدة الأولى في الليلة السابقة للمولد ، و الذين يعيدون قراءتها ثانية بكاملها من المغرب إلى بزوغ الفجر ، في حين يتم قبلها ختم ما تبقى من فصول القصائد الأخرى في نفس الليلة، و من بين العادات المؤثرة أثناء حضور جلسات المدح هذه ، و بمجرد وصولهم إلى قافية حرف القاف بعد سماع بيت " قفوا واسمعوا نطقي لمدح محمد"، يقف الجميع استحضارا لوجود النبي صلى الله عليه وسلم معهم، و ما هذا إلا دليل على فناء أهل أدرار في حب النبي محمد. و تحضر النساء الأدراريات في عشاء ليلة المولد " الكسكسي الأدراري" المميز ، و الذي صنّف كأحسن طبق كسكسي في العالم " . بعد صلاة الفجر تقرأ مناجاة مشتملة على توسّل إلى الله بالنبي و الصحابة و الصالحين، والتي ترتل جماعة وبلحن خاص ، و هي قصيدة محلّية تقرأ بعد العودة من الحج لاستقبال الحجيج ، و منها " اللّهم اغفر للحاج و لمن استغفر له الحاج" ، وتقدم في ذلك الصباح "الحريرة الأدرارية"، و هي عبارة عن حساء ، ويعقبها إبريق الشاي الذي يشرب به جميع الحضور . ويولد النبي .. معتقد شائع لدى الأدراريين من المعتقدات الشائعة بالمنطقة بخصوص المولد، أن الشمس في ذلك الصباح تكون أكثر نورا و تتلألأ فرحا بالنبي، و يستمر الاحتفال في أدرار حتى اليوم السابع من مولد النبي محمد، مع تلاوة القرآن و إطلاق البارود، و هذا ما يبهج ليالي المنطقة. و ب"تيميمون"، إحدى المناطق التابعة لأدرار، تجمع رايات زوايا البلدة الفائقة الثلاثين راية ، و التي على رأسها راية الحاج محمد، أحد الأولياء الصالحين بالمنطقة، و بعد العصر يلتقي الجميع و بحوزتهم مجموع الرايات بجبل "قوبا" ، فيقومون بإطلاق البارود و أداء رقصة الحضرة ، ثم يرجع الجميع إلى زاوية "سيدي الحاج بلقاسم ، الذي تنسب إليه عادة إحياء "سبوع" مولد النبي الأكرم ، حيث يأتي الزوّار من شتى البلاد ، فمنهم من يأتي من "مالي" و " تيمبوكتو" و "المغرب".. إلخ، ليلتقوا بعدها جميعا بمكان يدعى "الحفرة" ، و الذي تقام فيه "المعرض التجاري الخاص بمنطقة تيميمون"، فيتشكل بالمنطقة من الحضور ثلاثة أفواج من الرايات ، تأتي أحدها من الشرق و واحدة من الغرب و الأخرى من جهة القبلة ، و من أهم هذه الأعلام، علم "بوقرون" الممثل لزاوية "الحاج بلقاسم" ، فيركضون بسرعة وسط جمع غفير يفوق ال 1000، و الذين يقومون بمجرّد مرور حاملي الرايات، بإلقاء ما يسمى ب "الزيارة" ، و هي عبارة عن نقود يتصدّق بها سكان المدينة على الفقراء و طلبة الزوايا وغيرهم، وتتناطح جميع الرايات رمزا إلى التقاء جميع التلاميذ بشيخهم "سيدي بلقاسم" ، و تقبيلهم بعضهم البعض كما جرت العادة سالفا. و للإشارة فإن هذه الطقوس و الاحتفال ب "السبوع" ، تعد موعدة وعد بها الشيخ "سيدي الحاج بلقاسم" النبي صلى الله عليه و سلم بعد فرحه برؤيته في المنام كما تناقلته الروايات. و أما بمنطقتي "إنزجمير" و " زاوية كونتة" التابعتين لأدرار أيضا، فتبرمج فيهما محاضرة عشية ليلة الأسبوع ، يلقيها أحد علماء المنطقة يدعى "مولاي عبد الله الطاهري" بزاوية الشيخ "الكونتي" الذي توفي منذ حوالي سنة. و تقام بالزاوية مأدبة عشاء على شرف الزوّار ، و في صبيحة "السبوع"، يمشي الجميع لزاوية "سيدي المغيلي" لزيارة ضريح هذا الشيخ و الاعتراف بما قدّمه من خدمة للمنطقة ، بطرد اليهود و رد التشيع الذي كاد يرسخ في المنطقة ، و فتح بلاد السودان إفريقيا السوداء ، فالمولد بأدرار احتفال بالنبي ، و بورثة النبي من علماء و أولياء و صالحين اختاروا سيرته منهجا لحياتهم . الغرب الجزائري .. مظاهر مختلفة فرحا بسيّد الخلق يعد الاحتفال بالمولد النبوي في تلمسان تقليدا قديما بالمنطقة، فرغم معارضة الكثير من قدماء علماء المنطقة لفكرة الاحتفال بالمولد معتبرين إياه عادة مبتدعة، فإن من أعيان المنطقة من رأوا أن الاحتفال بها في وقت سابق أمر واجب، خاصة مع اشتداد المدّ الصليبي بالمنطقة ، لتوطيد ارتباط المسلمين بدينهم، و أول من أسس للاحتفال بالمولد النبوي في المنطقة هو الملك "أبوحمو موسى الثاني" ، حين تزامن مولد النبي مع فكّه للحصار الممارس على المنطقة من طرف المرينيين طيلة احدى عشر سنة . تبدأ الاحتفالات في تلمسان قبل المغرب و تتواصل لليالي عديدة ، إذ تقوم العائلات التلمسانية ليلة المولد باشعال الشموع و تعطير المنازل و المساجد و الزوايا بعبق البخور و العنبر ، و يكرم طلبة العلم الشرعي بالمساجد و الزوايا و الكتاتيب بالهدايا و الهبات، ترتيل القرآن و إيقاعات الطبول المصحوبة بأجمل المدائح النبوية تبهج مسامع التلمسانيين صغارا و كبارا، فيما توزع الحلويات و الهدايا على الجميع دون تمييز أو استثناء. و تتزين النساء التلمسانيات بألبسة تقليدية بهيجة ، أهمها القفطان التلمساني و الحلي الفاخر ، و يجتمع الناس كلهم على قصاع مزينة بألوان من الأكلات الشعبية الشهية ، و رائحة البخور تعم شوارع المدينة و أزقتها ، تعبيرا عن فرحة أهل تلمسان بنعمة الانتساب لهذا النبي . ندرومة .. احتفالات تسبق الليلة المباركة بأسبوع تبدأ التحضيرات لمناسبة المولد بندرومة قبل أسبوع من الليلة المباركة، إذ تنظف النساء خلالها بيوتهن، أما الرجال فيقصدون المساجد و الزوايا للتسبيح و المديح و قراءة القرآن، أما الصوامع ومكبّرات الصوت فتصدح بالمدائح و الابتهالات. بعد صلاة الفجر و الاحتفال بليلة المولد، ترتفع أصوات زغاريد النساء و مفرقعات الأطفال بكل ربوع ندرومة ، و لا يفترق الناس إلا بعد تذوقهم "التاقنتة" ، و هي مزيج من الدقيق المحمص المخلوط بالزبدة و العسل و المزين بالمكسرات ، لتكون هذه التحلية خاتمة فأل للاحتفال بمولد رسول الإسلام . " المنارة" تقليد تشترك فيه العائلات المليانية و الشرشالية يتميز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في مدينة مليانة بطابعه الخاص، و الذي لا يوجد له مثيل بسائر أنحاء الوطن، غير أنه يشترك مع مدينة شرشال في أحد الطقوس المسمى ب "المنارة"، وهو تقليد تلتزم بتطبيقه كل من العائلات المليانية والشرشالية سوّية، فمنذ زمن طويل يناهز الأربعة قرون تقريبا ، رسخ هذا التقليد بكلا المنطقتين، و تشبث به أهلها حفاظا عن هويتهم الرافضة للانقياد خلف أي استعمار مهدد لها بالانحلال و الزوال. و يؤكد المؤرخون أن المنارة اتخذت أشكالا متعددة عبر الزمن ، و يعود الفضل في الحفاظ على هذا الموروث ، إلى أحد أبناء مدينة مليانة المدعو "قسطا علي"، و الذي صنع منارة بشكل باخرة لها مدافع بطول مترين و نصف ، يتم تزيينها بمختلف أدوات الزينة ، كإشارة إلى الأسطول البحري الجزائري ، ويحملها موكب جماهيري كبير ، مرددا لأناشيد دينية خاصة بمناسبة المولد تسمى "الجلالة" ، و تمرر على مراكز الاستعمار ، ليتوقف مسيرها بضريح الولي الصالح "سيدي أحمد بن يوسف". وتقوم كل الأحياء بصناعة منارتها الخاصة بها ، و تحمل باليد أو على عربة بعد صلاة العصر ، و يتقدم الجماعات الشيوخ و الطلبة الذين يرددون المدائح الدينية مع فرق "الزرنة" و"البارود" ، إلى أن تصل في حدود المغرب إلى مقام الولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف، فيؤدون الصلاة و يجمعون أموال المتبرّعين لتوزيعها على الطلبة ، و تقدم الحلويات و الأكلات الشعبية ، و تبقى مظاهر البهجة و الفرحة الجماعية بمولد النبي إلى غاية الانتهاء من صلاة الفجر . عادات مختلفة بمناطق متعددة التماسا لغاية موحدة، و هي صنع الفرحة بمولد خير خلق الله و رحمته للعالمين، محمد صلى الله عليه و سلّم تسليما .