أليس مترجم الشعر مدعوا إلى القبض على هذا السر وتحويل اللغة التي يستخدمها إلى ما يماثل مفتاح ملارميه المرصع بالجواهر ليفتح به البوابات السرّية التي تكشف بعد فتحها عن تلك الأبعاد المختفية في العتمة. ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى هي فعل صداقة مع ثقافات الآخرين. منذ البداية يدرك مترجم الشعر أنه مورّط في شبه خيانة للأصل، وأن النص الجديد الذي يضعه على الورق هو ملحق لذلك الأصل، ويعي في الوقت نفسه أيضا أن النصوص الأصلية ذاتها هي مجرد ملحقات للحياة. وفي الحقيقة إن ترجمة الشعر ليست مجرد مهنة بل هي علاقة حميميّة مع القصائد التي تحرك المناطق الأكثر حساسية في ذات المترجم، ورحلة تسلل رويدا رويدا إلى الأسرار التي تكتنزها. بهذا المعنى هي فعل نسج ظلال المعاني، ورموز الدلالات، وسديم العوالم الأكثر غرابة والكشف عن الصياغة الداخلية التي تتضمنها وتعطيها وجودها المتفرد، ولكن هل يمكن ترجمة النص الشعري حقّا عن لغاته الأصلية؟ في هذا الخصوص تنبغي الإشارة إلى النقاش الدائر في حقل الفلسفة حول إمكانية وعدم إمكانية القبض على الأشياء في ذاتها أي في أصلها الفريد وبعيدا عن الموقف الطبيعي، وإلى الحوار الذي احتدم وما زال يحتدم بين نقاد الشعر والشعراء حول الإجابة على هذا السؤال: هل الشعر يماثل الواقع وأنه تمثيل له أم أنه اختراق وإعادة خلق له ومحاولة لفتح المجرات الخفية والقبض عليها خلسة وتقديمها على أنها الجزء الذي لا يكتمل وجودنا إلاّ به ؟ ، أم أن الشعر هو الوقفة المترددة والحائرة بين الواقع واللاواقع؟ إذا كان الشعر هكذا فهل بمقدور المترجم أن يجد وينحت لغة الترجمة التي تقبض على أشياء القصيدة ذاتها وتعبر عن هذا التأرجح الدائم بين الواقع واللاواقع الذي تشتهي القصائد أن تؤسس العلاقة بينهما؟ أعتقد أن مهمة مترجم الشعر تتمثل في الإمساك بالحساسية العميقة التي تتحكم في بنية القصائد، وبالسر الذي تتلعثم به لكي تبوح ببروقه وظلاله ورمزياته. مرة قال الشاعر الفرنسي ستيفن ملارميه « لكل إنسان سر، كثيرون يموتون دون أن يجدوه، ولن يجدوه، لأنهم موتى. السر لا يوجد بعد ولا هم يوجدون. أنا ميت وبعثت ثانية بمفتاحي المرصع بالجواهر، وهو مفتاح آخر علبي الروحية. إنها مسؤوليتي الآن أن أفتحه في غياب أي انطباع مستعار و أن سرّه سوف يشع في سماء رائعة الجمال». أليس مترجم الشعر مدعوا إلى القبض على هذا السر وتحويل اللغة التي يستخدمها إلى ما يماثل مفتاح ملارميه المرصع بالجواهر ليفتح به البوابات السرّية التي تكشف بعد فتحها عن تلك الأبعاد المختفية في العتمة والتي تقطن وحيدة في القصائد التي يترجمها؟