قد يحدث للشعر أن ينتقل من لغة إلى أخرى بالرغم من أن بعض أهل الأدب يعتقدون أن هذه النقلة غيير ممكنة، لا على صعيد الصور ولا على صعيد الإيقاع، بل، ولا حتى على الصعيد الحضاري. هذه الحقيقة تطالعنا كلما قرأنا الشعر، بأي لغة كانت، لكننا نقفز فوقها حبا في الشعر، لأن هذا الشكل الفني كان وما يزال الساحة التي تلتقي فيها جميع أشكال الوجدان، وفي جميع اللغات. قرأت الشاعر (آرثر رامبوArthur Rimbaud) بالفرنسية، وفي بعض الترجمات إلى اللغة الإنجليزية، وقرأته أيضا في ترجمة عربية جميلة نشرت قبل أكثر من ثلاثين عاما في العراق، وهاأنذا أقرأه اليوم باللغة العربية مرة أخرى، وفي ترجمة أنيقة للأديب العراقي كاظم جهاد، مع مقدمة ضافية تقدم صورة عن العالم الشعري الذي عاش فيه، والعالم الواقعي الذي تحرك فيه بين أوربا وإفريقيا وجنوب الجزيرة العربية. والترجمة في حقيقة أمرها ترجمات متعددة. كل ناقل بين هذه اللغة أو تلك يضفي على النص الأصلي الكثير من عندياته، بل إنه قد يتجاوز هذا النص بالذات، ويبدع في اللغة التي ينقل إليها. كاظم جهاد تذوق شعر آرثر رامبو، وعرف في نفس الوقت كيف يستخدم اللغة العربية لكي تستوعب ذلك الكم من الجماليات التي تزخر بها قصائد رامبو ونثرياته. وتلك ميزة قلما يتوافر عليها المترجمون في عالمنا العربي، إذ أن معظمهم يلتصقون بالنص الأصلي التصاقا، ويحاولون نقله بحذافيره إلى لغتهم على حين أن النقل في هذا الشأن يكون عبارة عن تدوير للغة، أي إن المترجم، أيا ما كان جهده، وقدراته الإبداعية، يستحيل عليه أن ينقل جميع ما يحتوي عليه النص الأصلي. والترجمة الشعرية بوجه خاص، عبارة عن محاولة إدراج دائرة هندسية فوق دائرة أخرى تمثل الأصل. وفي جل الأحيان، يستحيل على الناقل أن يضع دائرته فوق الدائرة الأخرى بحيث تغطيها تغطية كاملة، وبحيث لا ينزلق شيء من مساحتها ويفيض على الدائرة الأصلية. ولذلك، قال الشاعر الفرنسي (ميشال بوتورMichel Butor) إن الشعر هو ذلك الشيء الذي لا ينتقل من لغة إلى أخرى مدركا بحكم امتلاكه للغة الفرنسية التي يكتب بها وللغة الإنجليزية التي يوظفها في أبحاثه أن المعنى في هذه اللغة لا يتكامل بالتمام في اللغة التي ينتقل إليها. وترجمة الأديب العراقي كاظم جهاد تنطوي على هذا الشيء من القبيل، لكنها تظل جميلة، تقربنا من شعر آرثر رامبو ونثرياته. فهل يأتي مترجم آخر بعده ويغامر في هذا البحران الزاخر من المشاعر والأفكار والأحاسيس والصور، ويجعلنا نقف على جمالياته في نطاق اللغة العربية مرة أخرى؟