حين يكون المحاوَر هو الشاعر الأردني الشاعر القدير منير ناصر فنحن آنذاك في مواجهة شاعر حقيقي، له ما يقوله شعرا ونثرا ..في هذا الزمن الذي طغت فيه ألقاب مملكة في غير موضعها لنعود دائما إلى محاكاة صولة الأسد، ولتعاني الساحة الأدبية من هذا الكم من الفقاعات التي يخفي فيها الهواءُ الماءَ. الشاعر القدير منير ناصر من مواليد مدينة عمان الأردنية عام 1967 عضو إتحاد الكتاب و الأدباء الأردنيين حاصل على شهادة دكتوراة دولة في اللغة العربية بتقدير امتياز له العديد من الدواوين الشعرية منها " الأشواق" كما حصل على العديد من الجوائز و شهادات التقدير . *** قال عنك أحد النقاد أنك ينبوع من الألحان و دفق من الرؤى الشفافة و الأخيلة المجنحة و المعاني المبتكرة و قال عنك أحد الشعراء : "أن لديك شاعرية وقادة وصورا جميلة ومتميزة في معالجة هموم الإنسان المعاصر وقضاياه" و نحن نشهد بهذا هل كل هذا من وحي المدرسة الكلاسيكية التي تنتمي إليها وتأثيرها عليك؟ ** أشكر لك حسن الظن بي وشهادتك هي موضع اعتزازي وأقول إن السمات الفنية والخصائص المميزة لنص ما هي في الواقع إلا انعكاس للمميزات الأسلوبية لصاحب النص وهذه تتكون في النهاية من الثقافة التي ينتمي لها الشاعر أو الأديب أو المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها، أنا وإن كنت لا أميل إلى التأطير والقولبة في تصنيف النصوص حسب المذاهب والاتجاهات الأدبية لأنها في نظري متداخلة فالشاعر قد يكون كلاسيكيا ورومانسيا وواقعيا وغير ذلك، هذه النفس الإنسانية تواقة للتجريب وهي تعبر عن ذاتها في كل أطوار حياتها فأدبها صورة منها ولذلك تتداخل الخيوط وتمتزج الألوان ولكن نفس المبدع تبقى هي هي ،معبرة عن هواجسها وانفعالاتها.. وأقبل هذا التقسيم لأغراض الدراسة العلمية والنقدية.. وإذا كانت المدرسة الكلاسيكية تعني في ما تعنيه تقديس القديم والحفاوة به والنسج على منواله وإعلاء شأن اللغة والمحافظة على الشكل فأنا في صميم هذه المدرسة، بل وأكون في طليعة المتصدرين لها ،ذلك أني أحفل بهذا كله ،ولكن أقول: أنا مع التجديد والحداثة التي تستند إلى هذا الإرث العظيم للأمة العربية والإسلامية والإنسانية والإبداع والابتكار ضمن قواعد وأصول، وليس كما نراها تقفز في الفراغ وكالنبت الشيطاني تريد إقامة بنايات شاهقة في الهواء أو على الرمال. إن الحداثة التي يدعون إليها لا علاقة بينها وبين التراث، فهي لا تقوم عليه ولا تستند إليه وبالتالي فهي فاقدة للشرعية، فهي ابن غير شرعي لثقافتنا وأدبنا وفكرنا وشعرنا.. إذن فانتمائي لهذه المدرسة أكسب شعري هذه الخصائص الأسلوبية التي منحني شرف توافرها في شعري نقاد كبار لهم حضورهم في المشهد النقدي وهذا شيء يدعو إلى الاعتزاز. *** هل ترون أن مشروع الحداثة قد استطاع إبعاد الكثير من الشعراء عن رسالة الأدب وعن الاهتمام باللغة ؟ ** الحداثة من سنن الكون وهي منطق الحياة، والوقوف في وجهها إنما هو ضرب من الجنون والحمق، والحياة لا تحفل بالجمود وتتقدم إلى الأمام دائما، تسقط من حساباتها ما لم يعد قادرا على مواكبة التجديد والتطور، ولكن ماذا يعني لنا هذا كله ؟ أي، ما هي الحداثة التي أتحدث عنها هنا ؟ هل هي الحداثة التي نراها اليوم على صفحات الجرائد والمجلات مما يسبب الغثيان ويؤدي إلى الدوار؟ هل هي هذا التسويد المجاني لبياض هذه الأوراق؟ هل هي السير في ركاب دعوات مشبوهة للإطاحة بلغة القرآن الكريم؟ هل هي الأدب العبثي المفرغ من الرسالة؟ هل هي فتح الأبواب أمام من هب ودب ليدعي أنه شاعر دون ضوابط ودون مراعاة لأبسط شروط الإبداع وتعتبر الموهبة فيها فضلة زائدة لا حاجة لها البتة؟ هل هي الدعوة الصراح لقصيدة النثر التي تهدف في النهاية إلى القول أن القرآن الكريم إنما هو قصيدة نثر؟ هل هي المناداة بموت المؤلف وموت النص وموت كل شيء؟ إن الهدف الذي لا يخفى علينا ولا على كل ذي بصيرة أن الحداثة التي يدعون إليها هي حداثة غريبة عنا ، هجينة لا علاقة لنا بها ولا تمت لنا بأدنى صلة.. لقد أثبتت الأيام بعد أن كشفت الحقائق وأميط اللثام عن أصحاب مشروع الحداثة الشعرية منذ مجلة شعر ومجلة الآداب وارتباطهما المشبوه بدوائر من مصلحتها تحطيم الموروث والمقدس لهذه الأمة وتعرية حملة لواء الحداثة الزائفة، وأحيل هنا القارئ الكريم إلى كتاب جناية الشعر الحر للشاعر المرحوم أحمد فرح عقيلان الذي أورد كل تلك الحقائق حول جناية الشعر الحر، ولنا أن نتذكر ما قالته نازك الملائكة في آخر أيامها عن ندمها على الشعر الحر الذي أوصل المشهد الشعري إلى الحال المزرية التي هو عليها، ولكني أعود لما بدأت به لإجابة السؤال القيم إن من أهم أهداف مشروع الحداثة هو إبعاد الأدب عن رسالته في الحياة وإبعاد الشعراء عن اللغة وبالتالي إبعادهم عن قرآنهم ودينهم، ولكني أقول نحن مع الحداثة التي ترتكز إلى أسس وأصول وقواعد من تراثنا ولها علاقة وثيقة به لتكون الحداثة نتاجا طبيعيا وإفرازا حقيقيا لهذا التراث، وقد يسأل سائل: وكيف ترى الحداثة؟ وكيف تنظر للتجديد في الأدب؟ فأقول: التجديد لا يكون بالخروج على الشكل وإنما بالتجديد داخل هذا الشكل في الصور الفنية التي ترضي ذائقة أبناء هذا الزمان وفي المضامين التي تعبر عن الأمور التي تشغلنا في هذا العصر، وفي التراكيب والجمل والألفاظ القريبة من استخداماتنا اليوم وتوظيف معطيات النقد والدراسات الأدبية لتخليص الأدب من القصور الذي قد يعتريه، وتنقيته من الشوائب التي قد تلحق به، والانفتاح على تجارب الآخرين وأخذ النافع منها.. هكذا أنظر للحداثة. *** كان العصر عصر علماء وباحثين، خلاله نهضت اللغة العربية على الخصوص نهضة كبرى. في وقتنا الراهن هناك من يقول أن العربية في محنة شديدة، وإنها قد تصل الى ما يشبه المأزق في الوقت الذي تسجل فيه العاميات انتصارات مذهلة ؟ ** اللغة العربية في الوقت الراهن أساس دائها، وهو داء وبيل، هو التعليم، تدني التعليم في جميع مراحله في بلادنا. واللغة إذا كانت في البوادي، كما كنا نقرأ في كتب التراث، فلا بد لها من الاكتساب. والاكتساب يكون بالتعلم. كان التعليم في بلادنا يعنى عناية كبيرة في كل الدروس التي تُقدم. وبطبيعة الحال لم تكن المعارف حينئذ بالغزارة الموجودة فيها الآن بعد ثورة المعرفة، وبعد هذه الأدوات الإلكترونية والتكنولوجية التي زادت من حصيلة المعارف ونشرتها. كان التعليم حينئذ يُعنى عناية كبيرة بالمواد التي تُدرس، وخاصة باللغة العربية. وحتى إنه يقال إن طالب الثانوية العامة حينئذ كان يعرف لغته أفضل من خريج قسم اللغة العربية في الجامعة في الوقت الحاضر. كان معلمونا في مراحل التعليم يحرصون على أن يتحدثوا بالعربية الفصيحة والسليمة. ولا تؤاخذيني إذا تجنبت استعمال كلمة الفصحى، لأن الفصحى صيغة تدل على أعلى المراجع ولا أعتقد أنها موجودة إلا في كتاب الله تعالى ودون ذلك في بعض الشعر الرفيع. لكن يمكن أن نقول "الفصيحة" أو السليمة. هذا مطلب عظيم أيضاً إذا وصلنا إليه. كانوا يحرصون جميعاً أن يتحدثوا باللغة العربية الفصيحة. فكانت هذه اللغة دائماً في الصفوف الابتدائية والوسطى والثانوية ثم في الجامعة تصافح آذاننا، نسمعها دائماً. صحيح أن لغة البيت ولغة الشارع هي مستوى آخر من مستويات اللغة، التي تُسمى اللهجة العامية، وأنا أعتبر أنها مستوى من مستويات اللغة. كما أن كتابة الشعر مستوى أسلوبي من اللغة مختلف عن المثقفين الذين يتحدثون بلغة عربية سليمة هي بين الأسلوب الشعري الأنيق واللغة التي في الشارع أو في البيت. هذه كلها مستويات لغوية، وأنا دائماً أؤكد أنه لا خصومة بين اللغة الفصيحة واللهجات العامية. اللهجات العامية موجودة في كل العصور وموجودة عند جميع الأمم في كل لغاتها. ومن يعرف اللغات الأجنبية يدرك هذه الحقيقة. وفي بعض البلاد الأجنبية من الخلاف بين لهجاتها العامية ولغتها الأدبية، أكثر بكثير مما بين اللهجات العامية العربية واللغة العربية الفصيحة. نحن يجب أن ننتبه الى هذه الحقائق. كان المعلمون يتحدثون دائماً باللغة العربية السليمة، ثم إن الكتب التي كنا نقرأها كانت كلها ذات أسلوب يرسي أسس الذوق الأدبي. وما كانت بدعة أن يدخلوا نماذج من الشعر الحديث، أو من الأدب الحديث، للطلبة بحجة أن هذا الشعر الحديث أقرب الى إفهامهم. لا، هم كانوا يقومون بعمل تأسيسي وهو بناء الذوق الأدبي ووصلنا بتراثنا، وكنا نقرأ أمهات التراث العربي في مراحل التعليم الثانوي حينئذ، بعضها ميسراً ومبسطاً، وبعضها كاملاً، إذا كان من جزء واحد صغير. وفي الجامعة أيضاً توسعوا في هذا، فكان الطالب يتصل اتصالاً وثيقاً بتراثنا. الآن الوضع اختلف، اللغة العربية الفصيحة لا يسمعها الناس إلا نادراً. فالتلميذ في المدرسة، والطالب في الجامعة، يسمع دروس اللغة العربية باللهجات العامية، ولا يستطيع معلم المدرسة ولا أستاذ الجامعة أن يقيم لسانه باللغة الفصيحة بجمل متلاحقة. ربما يقيم لسانه بجملة أو جملتين، ثم بعد ذلك يسقط في هاوية الحديث باللهجة العامية. وكذلك إذا رأيت الآن الصحف، ترى أن الإعلانات باللهجات العامية انتشرت في هذه الصحف، وأنا أتحدث عن الأردن،. وقد انتشرت هذه الظاهرة على أساس وهم هو أن الذين يقرأون الإعلانات يفهمون هذه اللهجة أحسن أو أفضل، أو بسرعة أكثر. في حين أنهم يفهمونها باللغة الفصيحة ربما أفضل بكثير من هذه اللهجة، لأن طريقة كتابة اللهجة العامية بالحرب العربي أحياناً تضلل ولا يستطيع المرء أن يقرأها. إذا أضفت الى ذلك أيضاً بدء انتشار الحديث باللهجات العامية حتى في نشرات الأخبار وفي بعض الفضائيات مع الأسف. والفضائيات اقتحمت علينا بيوتنا، ويسمعها الطفل والشاب والمسن، والمرأة والرجل. وبذلك افتقدنا هذا الجرس، هذا النغم للغة العربية الفصيحة. وكما ذكرت قبل قليل، ما عادت اللغة الفصيحة تصافح الآذان إلا الندرة النادرة. واللغة، كما لا شك أنك تعلمين ، حياتها في استعمالها فإذا لم تُستعمل اللغة العربية السليمة الفصيحة في التدريس، في مراحله المختلفة، وإذا لم تُستعمل أيضاً في كثير من مواقع الحياة مثل التلفزة، مثل الإعلانات في الصحف، مثل المحاضرات. الآن نستمع الى بعض المحاضرين يلقون محاضراتهم باللهجة العامية، بكل أسف، إذا لم تُستعمل اللغة في هذه المجالات، ذبلت وذوت، وتنتهي الى الموت بطبيعة الحال. ونحن، وكلنا يقر بذلك، المسيحيون منا والمسلمون، لولا القرآن الكريم، لانقرضت اللغة العربية بسبب ما تعرضت له من هجمات في الخارج وفي الداخل. هجمات الخارج لا تخيفني، يخيفني إننا نحن أبناء اللغة العربية نُميت هذه اللغة، إما عن جهل وإما أحياناً عن فكر مختل، مسموم. هذه هي الأسباب التي دعت الآن الى ضعف اللغة العربية. وهي نفسها التي يُلتمس فيها العلاج. طبعاً أنا ما ذكرت شيئاً مهماً. أنظر الى شوارعنا الآن، وأنظر الى المحلات التجارية والمخازن والدكاكين، وأنظر الى اللوحات بأسماء هذه الدكاكين، تحسّ أنك في بلد أجنبي، ولست في بلد عربي. حتى الأسماء المكتوبة بالحرف العربي أسماء أجنبية. هي أسماء أجنبية، ويصعب علينا أن نستبين نطقها إلا إذا تصورنا أصل الكلمة باللغة الأجنبية حتى نلفظ هذه الكلمة. فساد في حياتنا هو عدم محاولة منا، محاولة جادة، مخلصة، لأن الأمم شأنها شأن الأفراد، تُربي ، تُهذب، إنما إذا تُركت الأمور فوضى بهذه الصورة، تسيبت وتفككت. فوسائل الإصلاح في اللغة العربية متنوعة من هذا الذي ذكرته: من التعليم والتحدث باللغة العربية السليمة، في مراحله المختلفة. ثم عرض نماذج التراث مهذبة ومختصرة في بعض المراحل، وكاملة في مراحل أخرى، ثم الحديث باللغة السليمة في المحاضرات والندوات، سواء كانت ندوات حية أو ندوات تلفزيونية مسجلة. والحرص على أن تكون نشرات الأخبار كذلك ومن دون توسع كثير، يُقضى على ما بدأنا به من تحدث باللهجة العامية، وما يشبه ذلك. حينئذ، بطبيعة الحال، ستعود للغة العربية نضارتها إن شاء الله. *** ساعد النشر الإلكتروني في الدفع بالمبدعين إلى الأمام، فهل استطاع هذا النشر في التعريف بك خارج الأردن ؟ ** سيدتي الفاضلة، مما لا شك فيه أن النشر الالكتروني أسقط إمبراطورية الصحافة الورقية وفتح الأبواب وأشرعها وكسر احتكار جهات معينة للنشر، وبذلك حقق النشر الالكتروني للمبدعين فرصة الانتشار خارج بلدانهم والتواصل مع إخوة لهم في كل مكان،وهناك كثير من الصحف والمجلات ترفض نشر الأدب الرسالي الملتزم الأصيل بحجة الحداثة الزائفة وما بعد الحداثة التي هي كذب وتضليل وتزييف ودجل وتدليس،ولذلك من نعم الله تعالى على المبدعين أن وفر لنا مثل هذه الوسائل التي قربت الزمان والمكان لنكون في تواصل مع أحبتنا وقرائنا وأصدقائنا في كل زمان ومكان. *** في ختام هذا اللقاء الشيق هل نقول انك تملك أدواتا أدبية متمكنة و لغة قوية و موسيقى داخلية منسجمة مكنتك من التميز الذي يحافظ على القصيدة في شكلها العروضي التقليدي لتتجاوز بها إلى الحداثة و التجديد في فضاءات الحب و الوطن و الوجع الإنساني ؟ ** لا أملك في النهاية إلا أن أشكرك جزيلا أيتها المبدعة الشاعرة وأتمنى لك كل التوفيق وأمنيات الخير وكل الشكر والتقدير لجريدة الجمهورية وجميع القائمين عليها لما تقوم به من جهود جبارة لخدمة الأمة ومبدعيها.