وأنا انهى الشطر الأخير من إحدى روائع الأدب الروسي والعالمي؛ ممثلاً في رواية "ليونيكولايافيتشتلستوي" [1828- 1910] الخالدة (الحرب والسلم)، انتابني كباحث اجتماعي مهتم بالسياقات التاريخية لظهور البرديغمات الكبرى عديدالمقاربات؛ فمن بين ما قدمه "ماركس" وقبله "هيجل" وبعدهما تقريبا بفارق قرن من الزمن المفكر السوسيو- انثروبولوجي "بيار بورديو" في مؤلفه بؤس العالم؛تخاطر فكري شديد التقارب، فتقريبا نجد هؤلاء جميعهم يسيرون بخط واحد مع ما قدمه الأدب الروسي قبل الحرب العالمية الأولى؛ خاصة مع أيقونته "ليو تلستوي"المتأثر بدوره بمن سبقوه من عملاقة الأدب الروسي بشكل خاص على غرار (ألكسندر بوشكين، وفيدوردوستويفسكي). يصور لنا في وروايته (الحرب و السلم)حبكة أدبية كتبها سنة 1869؛ تدور أحداثها مع اجتياح القائد الفرنسي "نابليون بونابارت" الأراضي الروسية [ 1805/18012]، ودخول موسكو وانسحابه بعد الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس، بعدمارفض القيصر الروسي "ألكسندر الأول" الاستسلام؛ صور "تلستوي" القائد الفرنسي"نابليون" في ثوب قائد لثورة رأسمالية صاعدة؛ وتهكم عليهفي عديد المواضع بصفته »أداة لا معنى لها في يد التاريخ. « بينما أعطى في الرواية ذاتها لشخصية "بلاتون" أهمية كبرى بالرغم من كونه ريفيا أمياً؛ حدود مجاله العام لا يتعدى غير الأرض التي هو ملزم بالعناية بها؛ إلا أنه يثني عليه بالكثير من صفحات الرواية مثلا بقوله وهو يتحدث عنه "هو طموح، يعرف كيف يحمل في أعماقه كل تلك الأفكار النيّرة والعميقة التي سيطورها ليجعلها قوة تغيرية هائلة تستمد قوتها من روح الجماعة"، نفس الرؤية التي كانت لها ارتدادات بلورها "كارل ماركس" في كتابه (رأس المال 1867)والذي اعتبر فيه أن "البروليتارية الأممية" هي السبيل الوحيد لخلاص البشرية، لكن بشريطة امتلاكها الوعي بمشروعها للانعتاق من مخالب الاستبداد البرجوازي الصاعد، هذا النضال الذي أوجز تفاصيله "تلستوي" قبل قرن من الزمن تقريبا وجسد حضوره بشخصية "بلاتون" الثورية الرافضة لكل أشكال الهيمنة الرأسمالية. رؤى بلورها البلاشفة فيما بعد في خضم ثورتهم ضد القيصرية في روسيا؛ وجعلوها كأحد مقوماتهم الأساسية التي صاغوا بها دولتهم المنتصرة للقيم الاشتراكية. تطفوا على سطح الحدث في الرواية نماذج بشرية متنوعة، معظمها مريض مرض الطبقية، مرض النبل، مرض الإرث الثقيل، والنماذج البشرية، هذه هي غالباً نماذج مهتزة غير سوية، تتفاعل في داخلها صراعات كثيرة، أبرزها ما بين القلب والعقل أو بين الحب والواجب، وما بين القشور واللباب، وما بين تخلف الإكليروس (رجال الكنسية) وحركة التنوير في أوساط المثقفين الروس. طرح يضرب البرجوازية في الصميم، وكأن به يتنبأ بباتولوجية(Pathologi) المجتمعات الرأس مالية كما وضحها اوجست كون في كتابه المرجعي (الفلسفة الوضعية) الذي ظهر في ستة أجزاء من [1830/1842]. كذلك تعتبر واحدة من أعظم الروايات العالمية." الحرب والسلم " قدمت نوعا جديداً من القصص السردي الخيالي، ذا عدد كبير من الشخوص وقعوا في حبكة روائية واحدة، غطت مواضيع عظيمة أشير إليها في عنوان الرواية، مجموعة بعدد مماثل في الكبر من المواضيع, عن الشباب، الزواج، السن والموت. ورغم أنها غالبا ما يطلق عليها رواية اليوم، فإنها كسرت العديد من تقاليد الشكل في الكتابة، مما جعلها لا تعتبر رواية في وقتها. وفي موضع آخر توصف عادة بأنها واحدة من تحفتي تولستوي الكبيرتين هي آناكارينينا Anna Karénina[1877] ، وبالفعل فإن تولستوي نفسه اعتبر "أنا كارينينا" 1878 كونها محاولته الروائية الأولى بالمعنى الأوروبي.يفتتح "تولستوي" رواية أنّا كارينينابالجملة المشهورة: "كُل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة."ناقش فيها إحدى أهم القضايا الاجتماعية التي واجهت كافة المجتمعات الإنسانية، خاصة الأوروبية بُعَيْدَ الثورة الصناعية، وما نتج عنها من اهتمام بالمادة، وما ظهر من أمراض تتعلق بالمال لدى الطبقات الأرستقراطية آنذاك.في رواية آنا كارنينا؛ يصور " ليو تولستوي" هذا الصراع حول روسيا ومستقبلها من خلال شخصيات الرواية؛ حيث يمثل كل واحد من تلك الشخصيات الرئيسة منظومة قيمية في الفكر والسلوك مختلفة عن الآخر، ويجري فيما بينهم العديد من النقاشات والجدالات التي تعد امتدادا للجدال الثقافي آنذاك. فمثلا نجد أن شخصية "ليفين" رمز الأصالة كان يفضل المحراث على الآلات الزراعية الحديثة في إشارة ترمز إلى عمق الانتماء للأرض والثقافة المحلية وعميق الصلة بها. لقد فكك "تلستوي" في هذه الرواية بالذات حركية المجتمعيات الأروبية وانتقالها المتسارع من تضامن آلي مبني على مرجعية الجماعة، الإٍرث، القيم المتوراثة،.... إلى تضامن آخر أكثر تعقيدا يفسح المجال للآلة ويعزز من فردانية الأفراد، طروحات كذلك لها موطأ قدم بمؤلفات عالم الاجتماع الفرنسي "اميل دوركايم" وتحديدا في كتابه تقسيم العمل الاجتماعي الصدر سنة 1893. لم يخفي تلتستوي انتقاده الشديد لهذا الانتقال ( الرأس مالي)، المفضي من وجهة نظره لظهور انسانية مشوهة المعالم؛ وأكثر أنانية وذاتية.