توفي، أمس، المجاهد والأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطني والوزير السابق في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية عبد الحميد مهري، عن عمر يناهز 86 سنة، بمستشفى عين النعجة العسكري "محمد الصغير نقاش"، بعد أسابيع من الصراع مع المرض كان يعاني منه بالمستشفى العسكري، وشغل الفقيد منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني من سنة 1988 إلى 1996، وعرف بمواقفه النضالية وكان بمثابة موسوعة تاريخية، لما عايشه إبان الثورة التحريرية. تجربة سياسية وتاريخية وعبد الحميد مهري، الرجل المشبع بتجربة سياسية وتاريخية حافلة، مجاهد وسياسي ودبلوماسي جزائري محنك وأحد رموز الثورة الجزائرية، اسم نوفمبري ضارب في أعماق تاريخ الجزائر وقلعتها الثورية من مواليد 3 أفريل 1926 بنواحي سكيكدة ، ونشأ في وادي الزناتي حيث حفظ القرآن وتلقى أول دروسه، وعرف بميولاته القومية العربية، وقد انخرط مهري في حزب الشعب الجزائري ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية، واعتقل سنة 1954 إلى غاية أفريل 1955، وساهم في تحرير جريدة "المنار" وجريدة "صوت الجزائر" قبيل اندلاع الثورة، تعرض مهري للعديد من الاعتقالات ضمن السياسيين المعروفين بالميول لوطنهم منهم يوسف بن خده، وأحمد بوده وغيرهم، وكانت له اتصالات بالمسؤولين الكبار للثورة مثل كريم بلقاسم وعبان رمضان ومحمد خيدر عندما التحق في نهاية 1955 بالوفد الخارجي لجبهة التحرير بالقاهرة ومنها إلى عواصم عربية تمثيلا لجبهة بسوريا، لبنان، الأردن والعراق، كما شغل منصب عضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ثم في لجنة التنسيق والتنفيذ، عند تشكيل الحكومة المؤقتة شغل منصب وزير شؤون شمال إفريقيا في الأولى، ومنصب وزير الشؤون الاجتماعية والثقافية في التشكيلة الثانية. عرف، عبد الحميد مهري، بمشروع يسمّى باسمه، هو مشروع مهري للرد على مشروع ديغول، وبعد الاستقلال عُين أمينا عاما لوزارة التعليم الثانوي "1965- 1976"، ثم وزير الإعلام والثقافة في مارس 1979 ثم سفير الجزائر في فرنسا "1984-1988" ثم في المغرب حتى استدعائه إلى الجزائر وتوليه منصب الأمانة الدائمة للجنة المركزية ثم منصب الأمين العام للحزب. ولعل، أهم منصب تقلده مهري، كان أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني بين 1988 و1996، نظرا للمرحلة الحساسة التي كانت تمر بها الجزائر التي دخلت التعددية السياسية بعد 26 سنة الأحادية السياسية، كما برز دوره من خلال المشاركة في أول محاولة مصالحة من خلال التوقيع على اتفاق سانت ايجيدو بروما في 1995، إلى جانب حسين آيت احمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية وأنور هدام، لويزة حنون، وأحمد بن بلة أول رئيس جزائري بعد الاستقلال وآخرين، وظل مهري يناضل من اجل التغيير السلمي للسلطة والدعوة إلى التداول عليها إلى آخر أيامه من خلال المحاضرات والملتقيات التي شارك فيها. وكان عبد الحميد مهري قبل الدعوة التي وجهت له من طرف هيئة المشاورات السياسية التي ترأسها عبد القادر بن صالح، والتي تعتبر من آخر خرجاته الإعلامية والسياسية بعد الندوة الإعلامية التي نظمتها جريدة "الجزائر النيوز" والتي أكد فيها مواقفه من الإصلاحات السياسية، والتي اعتبرها الكثيرين بمثابة جرعة أوكسجين إضافية لهيئة المشاورات، بالنظر إلى الثقل التاريخي والسياسي الذي يمثله مهري مقارنة بوجوه وأسماء أخرى وكان عبد الحميد مهري، معروفا بمواقفه المشبعة بالوطنية، حيث أنه كان يبرز في الندوات والملتقيات الفكرية والسياسية المخلدة للثورة الجزائرية المضفرة، من خلال إبداء رأيه أو سرد الوقائع التاريخية التي عايشها ورفقاء النزال الثوري، حيث، طالب، في أحد الندوات المنظمة تخليدا لثورة أول نوفمبر وبمناسبة الذكرى ال 51 لإنشاء الحكومة المؤقتة، بجريدة المجاهد، طالب باعتماد تاريخ إنشاء الحكومة الجزائرية المؤقتة الموافق ل 19 سبتمبر 1959، عيدا لميلاد الدولة الجزائرية، ودعا إلى إعادة النظر في الكثير من المفاهيم والاعتبارات المتعلقة بالثورة التحريرية، وقراءة التاريخ الدبلوماسي للبلاد قراءة سليمة وصحيحة، حيث قال وقتها أن " البلاد تعيش على وقع جدال كبير وتساؤلات بقيت من دون جواب إلى حد الساعة بشأن بعض المفاهيم، وأكد بأن القراءة الصحيحة تقول إن ميلاد الدولة الجزائرية بدأ مع إنشاء الحكومة المؤقتة في 19 سبتمبر 1959، وليس مع اتفاقيات إيفيان"، وهو ما أوردته " الجمهورية" في صفحاتها. كما، أكد عبد الحميد مهري، في أكثر من مناسبة، أن كتابة التاريخ بحاجة إلى نظرة جديدة تنطلق من الحقيقة التاريخية، التي تخدم المصلحة العامة، والقراءة الصحيحة للتاريخ ضرورية، لأن" تاريخنا مازالت تتحكم فيه الأهواء السياسية"، ويرى عبد الحميد مهري بالمناسبة أن جبهة التحرير الوطني في حاجة أكيدة لإعادة النظر في كثير من القضايا والمواقف التي كيفت مسيرتها، وأثرت تأثيرا بالغا في الحياة الوطنية. دروس الماضي كما يرى عبد الحميد مهري أن جبهة التحرير الوطني في حاجة أكيدة لإعادة النظر في كثير من القضايا والمواقف التي كيفت مسيرتها، وأثرت تأثيرا بالغا في الحياة الوطنية، لكن الطريق الموصل لذلك لا يمر بالميادين التي تذكى فيها الصراعات والخصومات الشخصية على حساب الأفكار والبرامج والمواقف السياسية الواضحة، فأي حزب في نظر مهري لا يمكنه أن يهيئ المستقبل إذا لم يقرأ ويدرس ويستخلص تجارب الماضي..، وربما الرسالة التي وجهها عبد الحميد مهري الأمين العام الأسبق لحزب جبهة لتحرير الوطني إلى الأمين العام الحالي للحزب عبد العزيز بلخادم خلال المؤتمر التاسع للأفلان المنعقد مؤخرا تشير إلى ذلك. ويعطي عبد الحميد مهري رؤية واضحة لطريقة بناء الدولة، وبناء الدولة في نظره يتطلب إشراك جميع الجزائريين، وأن تقوم الدولة على أساس ديمقراطي يتيح الاختلاف في تسيير المجتمع، وليس على مقاس تيار معين وشخص معين أو مجموعة معينة.. ومما قال فيه، أحد الكتاب ، أنه، كان رجلا واضح لمواقفه وكلماته، وصارم وجاد، قوي الذاكرة وواع بحركة التاريخ، وهو رجل سياسي من طراز رفيع، يعرف كيف ينتقد، وكيف يختلف، وكيف يقاوم، وسيقول التاريخ عن هذا الرجل، دون شك، إنه عملة نادرة، وعاش على تاريخه وفي مستوى تاريخه ..." وكل ما نقوله نحن لا يضيف شيئا أمام وزن رجل كعبد الحميد مهري، رحم الله الرجل وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وذويه جميل الصبر والسلوان.