مهري.. العقل الذي فضّل الكلام في زمن الصمت رجل ثورة وأمة.. صاحب “التغيير الذي لا يأتي من فوق” توفي، صبيحة أمس الإثنين، بالمستشفى العسكري لعين النعجة، بالجزائر العاصمة، عبد الحميد مهري الوزير السابق في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، عن عمر ناهز 85 سنة. انطفأت أمس شمعة واحد من أبرز رجالات الإجماع الوطني في الجزائر، بعد عمر من النضال والعمل السياسي والاجتماعي الذي وفّق فيه عبد الحميد مهري بين تاريخه السياسي المفعم بالأحداث وبين مساره السياسي الذي شهد زخما كبيرا من الأحداث، لم يخمد إلا بعد اشتداد وطأة المرض قبل أن يلزمه الفراش ويدخله إلى المستشفى العسكري بداية جانفي الجاري ليغادره إلى مثواه الأخير. ظل مهري يناضل من أجل التغيير السلمي للسلطة والدعوة إلى التداول عليها إلى آخر أيامه من خلال المحاضرات والملتقيات التي شارك فيها، وكان في كل مناسبة يؤكد أن النظام في الجزائر شاخ ويتعين تغييره وأنه لم يتوصل الجزائريون بعد إلى الطرح السليم للمصالحة وأن الديمقراطية الموجودة هي ديمقراطية الواجهة فقط. كما كان يتحدث دوما عن أزمة الأفالان ويؤكد في كل مرة أن الصراع داخل جبهة التحرير الوطني ليس صراع أفكار وإنما صراعات شخصية بعيدة عن هموم الشعب، معتبرا نفسه “الأمين العام الشرعي للأفالان كونه لم يتم تنحيته عن طريق المؤتمر الذي انتخبه وإنما كان ضحية مؤامرة علمية”. المرحوم حظي طيلة مساره السياسي باحترام الجميع بمن فيهم أولئك الذين لا يتفقون معه في الرأي، فاستحق بامتياز لقب رجل الإجماع، الرجل الذي شكّل نبأ وفاته أمس صدمة في الأوساط السياسية، التي ستشيّعه إلى مثواه الأخير بمقبرة سيدي يحيى بالعاصمة بعد صلاة العصر. مالك رداد مهري رجل ثورة وأمة.. صاحب “التغيير الذي لا يأتي من فوق” رحل عبد الحميد مهري الرجل الثوري والسياسي المحنك، ولم ترحل معه مواقفه السياسية التي ستبقى شاهدة على وطنيته الكبيرة، ودليلا على اتزانه ورصانته وحكمته في تحليل الواقع السياسي، وترك وراءه إحدى أهم مقولاته حول التغيير في الجزائر ولعلها الأكثر وقعا وشدة مما قاله ساسة الجزائر منذ بدأت رياح التغيير في جانفي 2011 وإعلان رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الإصلاحات السياسية، وهي أن “التغيير لا يأتي من فوق سواء كان الفوق سلطة أو معارضة”. هذا هو مهري رمز جيل الثورة الذي يفكر في جيل الاستقلال، متشبعا بفكر قومي عربي حتى النخاع، فهو لم يفصل يوما التغيرات التي تهز الجزائر عن باقي الوطن العربي، وهو دائما من كان يرافع للامتداد العربي الإسلامي. والمرحوم المجاهد، أحد رجال الثورة الأوفياء لمبادئ نوفمبر، من مواليد 3 أفريل 1926 بمدينة الحروش، بولاية سكيكدة، زاول دراسته بالمدارس الحرة الجزائرية لينتقل بعدها إلى تونس حيث درس اللغة والأدب العربيين بجامعة الزيتونة. انخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري وعمره 16 سنة، فشغل منصب عضو باللجنة المركزية للحزب من 1951 إلى غاية 1953، ثم تولى مسؤولية تمثيل حركة انتصار الحريات الديمقراطية في تونس، وتم تسليط الضوء على عمله السياسي والدعائي في صحافة الحزب عندما ساهم في تحرير جريدة “المنار” وجريدة “صوت الجزائر” قبيل اندلاع الثورة، اعتقل في نوفمبر 1954 وبقي في السجن إلى أفريل 1955، بعد أشهر عيّن ضمن وفد جبهة التحرير الوطني بالخارج في القاهرة وعدد من العواصم العربية بتمثيله الجبهة في كل من سوريا، لبنان، الأردن والعراق، وشغل منصب عضو في المجلس الوطني للثورة، ثم عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ، وعند تشكيل الحكومة المؤقتة شغل منصب وزير شؤون شمال إفريقيا في الأولى، ومنصب وزير الشؤون الاجتماعية والثقافية في التشكيلة الثانية، شارك أيضا في مؤتمر طنجة الذي ضم مسؤولي أهم الأحزاب المغاربية. عرف بمشروعه المسمى مشروع مهري للرد على مشروع ديغول. وبعد الاستقلال عُين في مناصب سياسية كثيرة، حتى توليه منصب الأمانة الدائمة للجنة المركزية ثم منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطنية، خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1988 و1996. كانت شخصية مهري المتزنة وراء لجوء السلطة إليه، مباشرة بعد أحداث الخامس أكتوبر 1988، لمباشرته مشاورات سياسية مع مختلف الشخصيات السياسية والوطنية تحت سقف بيته، بهدف الخروج بحل للأزمة التي ألمت بالبلاد حينها، وكان مهري في نجدة السلطة خدمة لمصلحة الجزائر، كما كان الراحل واحدا من منظمي ندوة سانت ايجيدو بروما سنة 1994، إلى جانب زعيم حزب جبهة القوى الاشتراكية والفيس المحل، للنظر في تبعات وقف المسار الانتخابي سنة 1992، وهو من أهم الشخصيات التاريخية والوطنية التي وقعت على النداء من أجل السلم سنة 1996، كما وقع رفقة مولود حمروش وآيت أحمد، على بيان يشمل الخطوط العريضة لمبادرة سياسية تستهدف إنهاء أعمال العنف التي تصاعدت وتيرتها في الجزائر، وتدعو بشكل خاص السلطة للتوقف عن سياسة الإقصاء تجاه بعض القوى السياسية، وراسل قبل أشهر قليلة رئيس الجمهورية وحسين آيت أحمد مقدما نظرته المتوازنة حول التغيير السلمي في الجزائر. كريمة. ب مطلب كشف حقيقة المؤامرة العلمية كان آخر محطاته السياسية مهري.. العقل الذي فضّل الكلام في زمن الصمت فقدت الجزائر، أمس، واحدا من أبرز الوجوه السياسية والثورية ويتعلق الأمر بسي عبد الحميد مهري كما يحلو لقدماء “الجبهة” مناداته. الرجل الذي لم يبق في آخر أيام عمره ساكنا، أمام الحراك السياسي والاجتماعي الذي عرفته الجزائر في الآونة الأخيرة؛ حيث وجه العديد من الرسائل منها إلى بوتفليقة وقبلها إلى المؤتمر التاسع لجبهة التحرير الوطني. وكان آخر نشاط الرجل هو تلبيته لدعوة جلسات المشاورات السياسية والتشريعية التي قادها ثلاثي هيئة بن صالح فكان بصدق “العقل الذي ينطق حين يفضل الجميع السكوت والانطواء”. رغم حرقة المناورات والانقلابات التي تعرض لها عبد الحميد مهري، زمان كان في السلطة وأمينا عاما في جبهة التحرير الوطني؛ الحزب الحاكم قبل الانفتاح السياسي لسنة 1988، إلا أن المرحوم الذي عرف بفكره القومي، ظل وبحس المسؤولية، يلبي دعوة المشورة كلما استدعت الحاجة لذلك، سواء مع أحداث وطنية خاصة، حيث كان لايفضل الصمت والانطواء حين يشعر بأن الجزائر في حاجة إلى كل أبنائها، على غرار الحراك الاجتماعي والسياسي الذي بدأ في الجزائر أواخر 2010؛ حيث استبق سي مهري الجميع برسالة إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في فيفري 2011، في ظرف وصفه المرحوم ببالغ الدقة والخطورة، دعا الرئيس بوتفليقة من خلالها وبكل شجاعة إلى فتح باب بالحوار مع مختلف التيارات الفكرية والسياسية دون إقصاء شرط نبذ العنف الذي كان يرافع له في كل منبر مع تقييم نقدي شامل لنظام الحكم وممارساته في مراحله المختلفة منذ الاستقلال، كما طلب مهري من الرئيس في نص الرسالة إقامة سد في وجه انتشار الفساد والرشوة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بإخراج البلاد، نهائيا، من دوامة العنف التي تعصف بها منذ عشرين سنة. ودفع الحس الوطني عبد الحميد مهري إلى تلبية نداء هيئة المشاورات السياسية والتشريعية التي قادها رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، حيث حل المرحوم بكل تواضع بمقر رئاسة الجمهورية في 12 جوان الماضي في وقت فضل فيه الكثير الصمت وانتقاد الأوضاع الداخلية للبلاد من وراء البحار. وبلغة الصراحة البعيدة عن المجاملة التي عرف بها الراحل من مختلف المواقع والمسؤوليات التي تقلدها قبل وبعد الاستقلال، قال “ألبي دعوة هيئة بن صالح رغم مآخذي عليها”، طالب مهري في استشارته بفتح نقاش وطني موسع يشارك فيه الجميع دون استثناء حتى الإسلامين الرافضين للعنف، على أمل أن يخلص الى إجماع وطني، وبصراحة أيضا قال عبد الحميد مهري بمقر هيئة المشاورات “ما يؤخد على نظام الحكم الحالي عمله بعيدا عن أي نص قانوني”. كما فارق سي عبد الحميد حياة الفناء دون تحقيق حلمه في جبهة التحرير الوطني، الحزب الذي ناضل فيه منذ نعومة أظافره وتدرج في مسؤولياته القيادية إلى أن وصل إلى منصب الأمين العام في وقت مرت فيه الجزائر بوقت حرج انتهت به بمؤامرة علمية في صائفة 1996 وهي المؤامرة التي كان سببها رفض البعض لإبعاد الأفالان من السلطة. مهري الذي ظل يتنفس قيم ومبادئ الحزب العتيد رفض في آخر أيام عمره الزج به في صراعات وخلافات مبهمة رغم الاتصالات الحثيثة التي أجراها معه عبد العزيز بلخادم ومعارضوه من تيار التقويميين الذي يقوده صالح قوجيل، وكان مهري أيضا صريحا في رفض حضور المؤتمر التاسع للأفالان. وقال حينها في رسالة إلى عبد العزيز بلخادم “مازلت أطالب بشرح خيوط المؤامرة العلمية وتشريح أوضاع الحزب في دورة للجنة المركزية”. رشيد. ح رحل المناضل، المجاهد ولكل أجل كتاب برحيل الأستاذ عبد الحميد مهري، تكون الجزائر قد فقدت واحدا من أبنائها البررة، لقد كان مناضلا لا يكلّ دفاعا عن القضية الوطنية، ثم كان من حظه وحظ الجزائر أن شارك في كل المواعيد الحاسمة في تاريخنا المعاصر. لا شك عندي أن الأجيال السابقة واللاحقة ستذكر في الأستاذ عبد الحميد ولعه بقيم الحرية والعدالة ودهاءه في التوفيق بين رغبات الذات ووجوب الالتزام بمبادئ النضال الحزبي والسياسي. كما ستحتفظ الأجيال السابقة واللاحقة مثالا يحتذى وطريقا يسلك، فمن هذا المثال ومن هذه الطريق نفهم خلقه الطبيعي الذي يروم الوسطية والإبداع. وهو لعمري، رجل ثقافة بحق، فقد فهم باكرا أن الالتزام بمبادئ الأمة والدفاع عن أدق خصوصيات أفكارها لا يعني أبدا الانطواء على الذات ونفي ما لدى الآخر من إبداع. وكذا كانت شخصية الأستاذ عبد الحميد، مزيجا بديعا من حسنات شخصيتنا ومبادئنا، وما خالط هذا المزيج البديع من حسنات ثقافات أخرى، طعّمت بتجارب سنين طوال اقتحمت الزمن وكتبت جزءا من تاريخ بلدنا. أما من الرجل، فلنا أن نذكر التواضع والسخاء، وأما من المناضل، فلنا أن نذكر الوفاء والثبات على المبادئ والمواقف. يتركنا الأستاذ عبد الحميد، والجزائر في مفترق الطرق، وجيل نوفمبر الذي عرفه وناضل معه حيران، فبعد النضال والتضحيات والاستقلال، يأمل ذلك الجيل في أن تتحقق تلك الطموحات التي من أجلها ضحى وناضل. ولا يسعني إلا أن أتقدم لكل عائلة مهري ولحرمه وأبنائه وكل أبناء عائلته الكبيرة بأصدق عبارات العزاء وأبلغ المديح لفقيدهم وفقيدنا، رزقكم العلي القدير الصبر والشجاعة والسلوان.