منذ أن أسست دار الفضاء الحر قبل خمس عشرة سنة، وبدأت النشر، وأنا أرى هذا المرض الذي يسمونه القرصنة، وأسميه الجريمة الموصوفة، يتسع ويكبر ليصبح غولا بسطوته الكبيرة، حيث فشلت أمامه كل وسائل ردعه. لدرجة أني اتخذت قرارا بتوقيف دار النشر الفضاء الحر مؤقتا والتفكير في وسيلة أخرى لمجابهة مرض كان كل يوم يخترق مساحة النشر فيأكلها ويدمرها. ليس سرا إن قلنا إن الكتاب العربي يقف اليوم أمام تحديات كبيرة منها مخاطر الأفول والموت. وهي حالة حقيقية وليست افتراضية. فإضافة إلى مساحات الأمية التي تتسع باستمرار بسبب الحروب والهزات الاجتماعية الداخلية، التي يصبح الكتاب فيها من الكماليات بالنسبة للحاجات البيولوجية الضرورية للاستمرار في الحياة، وغلاء المعيشة، يضاف إلى ذلك مجتمعا، كل سنة تسحب الوسائط الاجتماعية الحديثة نحوها الآف، بل الملايين، من القراء المحتملين للكتب، الورقية تحديدا، إذ يكتفي القراء الفيسبوكيون أو التوبتريون بالبوسطات الصغيرة، أو المقاطع الأدبية الصغيرة التي لا تنتج معرفة حقيقية، الأمر الذي يضعف القراءة كفعل اجتماعي. يضاف إلى ذلك أيضا، ظرفية التحول القاسية من الورقي إلى الكتاب الإلكتروني وتوابعه الخطيرة ومنها القرصنة التي أصبحت مؤسسة منظمة يشرف عليها ناس مجهولون، لا أحد يعرف مصدرها ولا مطابعهم التي تكبر وتتسع ولا مساراتها التوزيعية. كيف لكتاب مقرصن في مصر مثلا أن يصل للأردن أو لفلسطين؟ كيل لكتاب مقرصن في الإردن أن يعبر كل الحواجز ويصل إلى فلسطين مثلا. الأجمل من هذا كله أصبحت كل بلاد تُقَرصن لنفسها ولقرائها بسبب قسوة الأوضاع. لكل بلد قراصنته في ظل غياب المؤسسات والدولة الناظمة والمراقبة. هناك طرق حرير مجهولة سيدها الكتاب ولكن أي كتاب. الكتاب الناجح والمطلوب عربيا. وقد يقول قائل أتركوهم يقرؤون لكن الخراب الذي تخلفه هذه الممارسات إغرق دورا كثيرة لأنه رخيص بسبب انه لم يخسر فيه مليما واحدا. قد تكون الظاهرة عالمية من حيث التحولات الطبيعية التي وضعت مصاعب كثيرة أمام الكتاب الورقي، لكن القرصنة فعل عربيك بامتياز، لأن الغرب والعالم المتقدم أبدع وسائل المتابعة القانونية ولا يمكن لأي كان أن ينفذ من القانون، حتى لا يشعر الكاتب أو الفنان أنه في غابة تسرق فيها حقوقه في وضح النهار. تطرح القرصنة في السنوات الأخيرة، في العالم العربي، بحدة لأنها إصبحت معممة ومربحة. في الكثير من المعارض العربية أجدني وجها لوجه أمام حالة يصعب تقبلها ورفضها أيضا. أتأمل النسخة المقدمة لي توقيعها. الطالب اشتراها من سوق أحدى المكتبات الوطنية. أقول في نفسي لن أوقعها لأنها مقرصنة واذا وقعتها أصبح شريكا في العملية. ثم أقول أوقعها لأن الطالب الذي اشتراها أربع مرات أرخص من الطبعة الرسمية لا ذنب له وليس شرطا ان يكون خبيرا للتفريق بين المقرص وغير المقرصن. هي مسؤولية الدولة أولا وأخيرا. وما عليها إلا أن تراقب المقرصنين لكن ذلك من آخر اهتماماتها مع انه مسألة قانونية وقضائية وينطبق عليها قانون الاستيلاء على حقوق الغير. ومع ذلك لا صوت لمن تنادي. على الأمد المتوسط والطويل سيفلس الناشر الأمين على حقوق المؤلف. الناشر الأمين في عمله الذي يبذل فيه جهودا كبيرة، نفسه في مواجهة وحوش غير مرئية تحتكر كل شيء بلا رحمة وبلا أدنى جهد. سرقة موصوفة أصبحت بفعل التكرار مشروعة وعادية لدرجة أن الناشرين في الأغلب الأعم استسلموا لها حتى وصلت الموسى إلى العظم وشارف معظمهم على الإفلاس أصبحوا ينادون بضرورة التوحد ضد هذا السرطان ودفع الدول إلى إيجاد قانون يحمي جهود الكتاب والناشرين. هذا يتعب وينهك بالضرائب والحقوق وإرهاق الكتاب بالضرائب مما يجعله سلعة مقتولة في الأساس. والمقرصن يبيع سلعة لا علاقة له بها سوى. هي هي ليست أكثر من مادة تم السطو عليها كمن يفعل مع بنك تمت سرقته فيستفيد بالأموال التي لم يخسر فيها مليما واحدا. أنها تجلب له الأموال بلا أدنى استثمار ولا أدنى خسارة أيضا أو مغامرة. لا يخسر المقرصن مليما واحدا في مشروعه لأنه يعمل في الظلام. طبعا تعددت أساليب القرصنة بشكل جلي وواضح. فهي تتم على العديد من المستويات. الأول مرئي، لكن لا أحد يوليه أي اهتمام. وهي قرصنة البي دي إيف PDF التي لا تكلف صاحبها شيئا سوى وضع الناص في موقعه ليدخل إليه أعضاء الموقع، وصاحي الموقع يدرك جيدا أن النص مطلوب. الامر أصبح أمرا عاديا وهو يغزو مختلف المواقع العربية في شكل كتب موجودة على الواجهات ويمكن بسهولة تحميلها. أي أنه يعطي فرصة لتحميل شيء ليس له حتى ولو كان ذلك مجانا. كثيرا ما تظهر حتى قبل الكتاب الورقي لأنها تسرق من المطابع وتنشر في المواقع أو تباع لها بأثمان زهيدة، هذا ما أخبرني به أحد الناشرين العرب. في ظل هذه الأدغال التي لا يحكمها أي قانون عرفي أو أخلاقي، يصعب أن تتهم شخصا محددا في ظل شبكة إنتاجية أناسها كثيرون. ثم تأتي القرصنات الورقية إذ لا يشتري المقرصن إلا نسخة من رواية معروفة أو بيست سيلر ويطبعها في المكان الذي يريده ومن هناك يسوق بضاعته التي لم يبذل فيها أي جهد. كارثة . المشكلة الكبرى هي أن مرض القرصنة يستفحل كل يوم أكثر بدون التمكن من توقيفه. ينتشر بشكل دائم وسريع سأحبا في طريقه الناشر والكاتب والقاريء معا. المشكلة خطيرة وتحتاج إلى جهد حقيقي من الدولة بأجهزتها والناشرين والمواطن أيضا، وإلا ستموت الكثير من دور النشر العريقة ويحتل النصابون وتجار الكتب المسروقة الساحة. .