الشاب تجاني محمد من وهران نموذج للمسيّر الناجح لا تزال صناعة الأحذية في الجزائر تعاني من عدة مشاكل، لاسيما تلك المتعلقة بنقص الاحترافية، وقلة الإمكانيات، وعدم قدرتها على منافسة المنتوجات القادمة من خارج الوطن، وحتى التقليد وغيرها من المشاكل التي تثبط عزيمة الحرفيين في هذا المجال، وحتى نسلط الضوء أكثر على واقع هذه الصناعة، قمنا بجولة استطلاعية إلى إحدى الورشات التي تهتم بصناعة الأحذية في وهران، لنرصد تجربة مهنيينا والأشواط التي قطعوها في مجال هذه الحرفة، فضلا عن معرفة أهم المشاكل التي يعانون منها وما هي آفاق هذه الصناعة في بلادنا، وهل هي قادرة فعلا على تحقيق نقلة نوعية في المستقبل المنظور ؟ في ضيافة المُسيّر الشاب محمد تجاني كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا، عندما وصلنا إلى أحد ورشة " جاني " لصناعة الأحذية لصاحبها محمد تجاني ، والكائن مقرها بشارع خليفو بن عبد السلام بحي "شوبو" بوهران، ، وجدناه في انتظارنا بمكتبه، كان شابا في مقتبل العمر، تبدو عليه ملامح العزيمة والإصرار، والرغبة في تحقيق طموحاته بالرغم من صعوبة التحدي وضرورة التحلي بالصبر والنفس الطويل للنجاح في هذه الحرفة، حيث أكد لنا أنه بدأ العمل في هذا المجال عام 2012، في إطار تشغيل الشباب "أونساج"، تعلم الحرفة من والده الذي يشتغل في صناعة الأحذية منذ الثمانينات، ومتحصل على شهادات في مجال التكوين المهني (اختصاص صناعة الأحذية)، ليقرر بعدها فتح ورشة خاصة به، كاشفا لنا أنه بقي ينتظر سنة كاملة، للحصول على الموافقة من أجل تجسيد هذا الحلم المشروع، معترفا أنه لم يجد صعوبة أو عراقيل بيروقراطية من قبل إدارة "أونساج"، لاسيما وأنه والده منح له محلا ليزاول فيه نشاطه، موضحا في نفس السياق أنه قام بجلب عتاد متطور من إسبانيا وهو نفسه المستعمل في العديد من ورشات صناعة الأحذية بأوروبا، مبرزا لنا أنه في بداية الأمر كانت الأمور تسير بشكل جيد ومقبول، بل وشرع في تسويق منتوجه للعديد من ولايات الوطن، إلا أنه وبعد أشهر قلائل لاحظ تراجعا في المبيعات بسبب ما سماه مشكلة "الشحن"، فما المقصود يا ترى بهذا المصطلح المتداول بكثرة من قبل الحرفيين الذين ينشطون في صناعة الأحذية ؟ ولماذا انتشر بقوة ؟ وما هي آثاره على المهنيين ؟ وما السبيل لحل هذا الإشكال الذي يشتكي منه الكثير من أصحاب الورشات..؟ الحرفيون يشتكون من "الشحن" لتوضيح هذا المصطلح قام محدثنا بالاتصال هاتفيا بأحد أصدقائه، وأخبره بأنه يستضيف صحفيا في مكتبه ويريد منه أن يوضح لنا معنى "الشحن" وكيفية عمله وآثاره السلبية عليهم، ليخبرنا هذا الشخص بأن العديد من الحرفيين باتوا يشتكون من هذه العملية، بل وسببت لهم خسائر مادية كبيرة وأن العديد منهم مهدد بالغلق والإفلاس، واصفا هذه العملية ب"الاحتيال المقنن"، ليلخصها لنا فيما يلي : حيث يقصد بعض التجار غير الشرعيين، مجموعة من المستوردين ويطلبون منهم بجلب معهم أحذية، ضمن السلع التي يشترونها من خارج الوطن، باعتبار أنهم (المستوردون) يملكون سجلا تجاريا وبإمكانهم إدخال هذه البضاعة بطريقة قانونية إلى الميناء على أنها سلعهم، ليستلمها هؤلاء التجار ويقومون ببيعها لأصحاب محلات بيع الأحذية بالولاية، دون فواتير وبأسعار باهضة لكن بنوعيات جيدة وماركات مشهورة، تصل أحيانا إلى مليون سنتيم و15 ألف دج فأكثر، داعيا في ختام مكالمته الهاتفية معنا، إلى ضرورة إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال تشديد الرقابة الجمركية أو حتى منع استيراد الأحذية تماما مثلما منعت الحكومة جلب أكثر من 900 منتوج أجنبي. "التقليد" وبيروقراطية البنوك .. النقطة السوداء بعد الانتهاء من سماع المحادثة الهاتفية، واصل المسير محمد تجاني حديثه معنا متطرقا إلى مشكل "التقليد" الذي لا يزال يضرب بأطنابه على المستوى الوطني، كاشفا لنا عن وجود العديد من الورشات التي تعمل بطريقة سرية في الولاية، ويقوم أصحابها بصناعة أحذية تشبه كثيرا تلك التي يقوم بصناعتها هؤلاء الحرفيون، إلا أنها تختلف فقط في التسمية و"ماركة" الحذاء، ما جعله يوجه نداء إلى مصالح الرقابة وقمع الغش التابعة لمديرية التجارة بوهران، لتكثيف حملات الرقابة والغلق لهذه الورشات التي انتشرت حسبه كالطفيليات، زيادة على مشكل العراقيل البيروقراطية على مستوى البنوك، كاشفا لنا في سياق حديثه أنه أراد تسويق منتوجه إلى دولة "السودان" ولما توجه إلى أحد المؤسسات المصرفية بالولاية، ليفتح حساب بنكي من أجل تسهيل عملية التبادل المالي، رفض هذا البنك قبول ملفه لأسباب واهية وهو الأمر الذي حرمه من تصدير أحذيته إلى هذا البلد، وبالتالي اكتشاف أسواق جديدة خارج الوطن. المنتوج المحلي صحي والصيني "مسرطن" ولدى حديثه عن المادة الأولية المستخدمة في صناعة الحذاء بالجزائر، أكد هذا المسير أنها ذات نوعية جيدة ومشابهة لتلك المستعملة في الدول الأجنبية، نافيا في سياق حديثه إلينا تسببها في مشاكل صحية لمن يرتديها، بخلاف تلك القادمة من الصين، ذات نوعية سيئة وجودة رديئة بل وأن العديد من الأطباء الجزائريين أكدوا أنها "مسرطنة" وخطيرة على صحة المواطنين. موضحا بأنه يقوم فقط بجلب بعض أنواع من النعل (Semelles) من إسبانيا لنوعيتها الجيدة، وبالرغم من ذلك إلا أن أسعار منتوجاته تنافسية وفي متناول الجميع، حيث تتراوح بين 500 إلى 1500 دج للجملة، وتنقسم إلى أحذية : المشي اليومي، الألبسة الرسمية والكلاسيكية وال"موكاسان"، وعن نوعية البضاعة التي ينتجها عمال ورشته، كشف لنا نفس المتحدث أنها ذات جودة وتقدر مدة صلاحيتها إلى 5 سنوات أحيانا، مشيرا إلى أنه وفي أحد الأيام ولدى توجهه إلى إسبانيا من أجل اقتناء بعض المواد الأولية التي يحتاجها المصنع، تفاجأ بعرض أحذيته في بعض المحلات بمدينة "أليكانت" الإسبانية، وهو الأمر الذي أشعره بالافتخار، وزاده إيمانا بقدرة شبابنا على رفع التحدي والتأسيس لصناعة محلية قادرة على منافسة القادمة من وراء البحار. حيث وفي الأشهر الأولى من تشغيل ورشته انطلق ب60 زوج حذاء في اليوم، وهو اليوم ينتج أكثر من 400 زوج ولديه طموح ليصل في غضون 2019 إلى مليون حذاء في السنة، لاسيما الصناعي منه (العمال المشتغلين في المؤسسات الكبرى) خصوصا بعد حصوله على قطعة أرضية في ضواحي ولاية وهران، في إطار تشجيع الاستثمار ودعم الشباب، خاتما تدخله أنه لديه مشروع في المستقبل المنظور ويتمثل في اكتساح البلدان الإفريقية وتصدير منتوجه إلى هذه الدول، حتى يلتحق بركب المسيرين الجزائريين الذين يسوقون أحذيتهم إلى الخارج. مع العلم أن منتوجه يباع في عدة ولايات على غرار عنابة، سطيف، تلمسان، الجزائر العاصمة، سيدي بلعباس...إلخ. ورشة رفع التحدي بالمناسبة وبعد الانتهاء من الدردشة التي جمعتنا بهذا الشباب الطموح، قمنا بزيارة ورشة العمل التي كان يشتغل فيها قرابة ال10 عمال بعدما كان عددهم في حدود 30، وهذا بسبب تراجع المبيعات والظروف الجوية التي شهدتها مختلف المدن الجزائرية مؤخرا، حيث لاحظنا أن أغلبية العمال من فئة الشباب بينهم فتاة وجدناها تضع الغراء على الأحذية، فيما كان شابين اثنين يخيطان القطع الجلدية قبل عملية إلصاقها في النعل ومن ثمة وضعها في القالب لتظهر الأحذية في شكلها النهائي، قبل تعبئتها في العلب وبيعها للزبائن الذين يريدون اقتناءها. وقد سألنا أحدهم عن سبب اختياره هذه الحرفة، ليؤكد لنا أنها مصدر قوته اليومي، وأنه أحبها منذ صغره... وبالرغم من أنها متعبة وشاقة إلا أنه لديه رغبة في التعلم والاستماع إلى نصائح العمال من أصحاب الخبرة الذين يشتغلون معه في الورشة. أصحاب المحلات يفضلون البضاعة الأجنبية ! هذا ولدى زيارتنا التي قادتنا إلى بعض المحلات المتخصصة في بيع الأحذية بوسط مدينة وهران، أكد لنا العديد من الباعة الذين تحدثنا إليهم، أن الزبائن الذين يقصدون محلاتهم، عادة ما يفضلون المنتوجات الأجنبية على المحلية، بسبب جودتها وطريقة تصميمها، إلا أنه توجد بعض السلع الوطنية التي استطاعت أن تنافس المستوردة من الخارج، من حيث الجمال والسعر وحتى طريقة صناعتها وخياطتها، مبرزين أنه على الإعلام الوطني تشجيع البضاعة التي تنتج في بلادنا لأن الكفاءات موجودة والعتاد متوفر ولا ينقص سوى التعريف بمنتوجاتنا التي يمكن تسويقها في دول الجوار كمرحلة أولى ثم الأوروبية والغربية كمرحلة ثانية. تضارب في آراء المواطنين ختمنا استطلاعنا بالحديث مع بعض المواطنين الذين وجدناهم يشترون في بعض محلات بيع الأحذية بوسط المدينة، حيث أكد لنا العديد منهم أن الأحذية الجزائرية ذات نوعية جيدة ولكن بسبب عدم تصديرها ونقص خبرة بعض الحرفيين وتمويل ودعم الحرفيين، لم تستطع منافسة الأحذية المصنوعة في الخارج، لاسيما من إسبانيا وإيطاليا وحتى الصين وألمانيا... موضحين أنهم صراحة يفضلون شراء الأجنبية بالرغم من ثمنها المرتفع، لكن ومع انخفاض القدرة الشرائية فإن العديد من العائلات الجزائرية مضطرة لشراء المنتوج المحلي لاسيما تلك التي لديها العديد من الأطفال.. لتبقى صناعة الأحذية في بلادنا رهينة الدعم وتنظيم هذه السوق من خلال محاربة التقليد وتشجيع المنتوج المحلي للنهوض بهذه الصناعة القادرة على اكتساح أسواق أخرى خارج الوطن وهذا بشهادة المسيرين والحرفيين الذين استطلعنا آراءهم، لاسيما وأن هذه الصناعة قادرة على تحقيق مداخيل مالية كبيرة للخزينة العمومية، في ظل تراجع أسعار المحروقات، فهل من مجيب لهذه الانشغالات المطروحة يا ترى ؟