أسرع يدخل إلى البيت في ثياب أنيقة، كأنما هو ذاهب إلى حضور حفل راق، تأمل نفسه في المرآة، عدل من تسريحة شعره قليلا، بدا راضيا عن نفسه، دخلت زوجته من غرفتها، كانت بلباس عملها وقد ظهرت منهكة، غير مبالية بمظهرها، يقترب منها أكثر. -عزيزتي، أنا بانتظارك. يمسك بيدها في حميمية. -لابد أن نخرج الآن، أنت لم تغيري ثيابك، ظننتك كنت عند الحلاقة. -آسف حبيبي، لا يمكن ذلك. -ولكننا اتفقنا، أليس كذلك. -بلى ولكن أنت أدرى بالظروف. -متى نعيش حياتنا إذن، لقد سرقتنا الظروف البائسة وإلى الأبد. -لم نعد ملكا لأنفسنا للأسف. -وملك من إذن؟ -أنت دوما تنسى الأولاد. يندفع مبتعدا خطوات وقد ظهر عليه الضجر. -أفففف، الأولاد الأولاد، وهل ننتحر نحن، في البيت الأولاد، في السياحة الأولاد، في المجتمع الأولاد، في الليل الأولاد، في النهار الأولاد، تبا للأولاد. تجلس إلى طاولة تقلب كتبا وكراريس دون أن ترد عليه. -ماذا يعني هذا؟ معناه أنا انتهيت، عشت طفولة مشردة وفتوة بائسة لأكثر من عشرين سنة، وعشت لوالدي المسنين عشر سنوات حتى رحلا عن هذه الفانية دون أن يخلفا لي ما أتمتع به، وارتميت في حضن الزواج لأعيش أحلامي التي ضيعتها على مذبح البؤس والتضحية، فإذا بالأولاد يختطفون مني كل شيء. تقترب منه كالمشفقة، وقد أثر فيها كلامه. -ما نفعل حبيبي، ألا يسعدك أن نعيش في أولادنا؟ -طبعا لا يسعدني، كل منا يعيش في نفسه. تحمل بعض الكتب والكراريس. -أستأذنك ذاهبة لتدريس الأولاد، غدا لديهم امتحانات، في نجاحهم سعادتنا. تدخل الخادمة من الغرفة المجاورة، ترتب ثيابها في المرآة، تبتسم له. -أراك كئيبا سيدي. -وكيف لا أكتئب، وقد صرت مجرد آلة، تكدح وتنتج لمن يستهلك على حسابي. تقترب منه في حركات إغرائية، يشتم عبق عطرها فينتعش. -بئس من يفعل بك هذا، مازلت في ريعان شبابك، عليك أن تعيش حياتك. -أعيشها؟ كيف؟ ومتى؟ ومع من؟ -أنت سيد نفسك، يمكن أن تضبط أنت كيف ومتى؟ تسكت لحظات ثم تواصل. -ومع من أيضا يا سيد الشباب. يقف منتعشا، يعدل من هندامه. -انظر إلى نفسك في المرٍآة، أجزم لك أن من يراك لا يظنك متزوجا ولا لك أولاد. يبتسم فرحا. -صحيح؟ مستحيل هذا الكلام، مستحيل. -سيدي. تقولها تمد بها صوتها وتقترب منه أكثر. يرتجف جسده كله، ويقترب منها أكثر. -سيدتي. تفاجأ باللقب فتجحظ عيناها، وسريعا تسعد به. -أنا سيدتك، ولكني خادمتك، منك الأمر ومني الطاعة، معي سيتوقف سنك عند الخمسين هذا إذا لم ترتد إلى بداية شبابك. -صحيح. يبتلع ريقه، ويمسك بيديها. -أنقذتني من الهاوية، أنقذتني، الويل لي كيف لم أنتبه لك أيتها الحسناء. تبتعد عنه قليلا. -أنت إنسان طيب ونبيل، لقد أرسلتني إليك الأقدار في الوقت المناسب. تسكت لحظات تتأمله، ثم تواصل. -هل تصدق سيدي؟ -طبعا صدقتك. كنت أتابع حياتك لحظة بلحظة، وأتألم، نعم أتألم، وبعمق، لن يؤذيك سيدي أو يفرط في حقك إلا من لا يعرف قيمتك يا كبير. يتنحنح معتدا بنفسه، وقد اغرورقت عيناه، يمسح عينيه بمنديله. -هل تصدقين؟ -أنت الصدق كله سيدي. -أنا كنت أعمى. تندهش فتقرب بصرها منه متأملة ملامحه. -أعمى؟ حاشا، ما رأيت والله أجمل من عينيك أيها الوسيم. يسمع من الغرفة صوت الزوجة تؤنب ابنها. -الويل لك أنت تعبث، أنت تلعب بالنار. تندفع الخادمة خارجة، يلحق بها مضطربا، وهو يقول هامسا. -متى نلتقي؟ متى نلتقي. تشير إليه بيدها ليتبعها، ويخرجان