قال رسول الله لأصحابه: {لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء (النتنى) لتركتهم له } رواه البخاري، في رواية أبي داود: لأطلقتهم له . كتبت هذه النفحة العطرة من سيرة المصطفى، بعد قراءة قصة مأساوية حدثت داخل بلد عربي، حيث قامت مجموعة من المُتمَسْلِمَةُ الجدد بذبح وتنكيل رجل خالفهم التصور والرؤية، المنهج والمذهب، نكّلوا به تنكيلا بالرغم أنه قبل الأحداث قدم لهم ولأهاليهم من الخدمات ما لا يحصى و لا يعد، وأجار بعضهم في كثير من الأحداث، ولنقارن بين سلوك النبي وسلوكهم، من خلال هذه القصة الخالدة التي رسم فيها النبي أروع معاني الوفاء والاعتراف بالجميل لمن خالفه الدين والاعتقاد . غادر النبي محمد (ص) قرية الطائف التي تقطنها قبيلة ثقيف متعبا ومنهكا من كثرة ما تعرض له من أهلها من ظلم وبغي، ضرب وسب، وتجويع وترويع،... كان ذهنه معلقا بمكة وما ينتظره، فهو يعلم أن سادة قريش سيستثمرون أحداث الطائف لصالحهم، ويجدونها فرصة للانقضاض عليه انقضاضا مبرما، قد لا يترك له مجال للاحتماء ببني عمومته وعصبته التي تأويه وتحميه, فكر الرسول في الأمر جيدا، فلم يجد حلا سوى أن يدخل مكة في جوار أحد أشرافها وسادتها، وتلك كانت عادة العرب في الجاهلية، إذ لا يتعرضون للمستجير مهما كان جرمه إلا أن يُرفع عنه حق الجيرة. بدأ رسول الله يتفرس أسماء سادة قريش، ويدعو الله أن يوفقه في إيجاد الرجل الذي يجيره من بطش قريش، فألهمه الله اسم المُطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وعندما بلغ منطقة حراء أرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي يسأله أن يدخل محمد وزيد بن حارثة في جواره، فقال المطعم: هو في جواري ومن معه. ودعا بنيه وقومه فقال: "تلبسوا السّلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا وصاحبه". دخل النبي محمد مطمئنا هادئا ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : "يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم." فسلك النبي حجج مكة حتى انتهى به المقام عند الركن، فاستلمه وصلى ركعتين، ثم انصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محيطون به خوفا عليه، وفي الوقت نفسه ذودا عنه. اعتبر الرسول موقف المطعم بن عدي برغم من عدم إسلامه موقفا إنسانيا عظيما، ينم عن المروءة وعظم النفس، ولم ينس الرسول ذلك الموقف أبدا، حتى بعد وفاة المطعم بن عدي قبل غزوة بدر بكثير. يظهر الاعتراف بالجميل من سيد الوجود لأحد سادة قريش في تلك المقولة التي رددها النبي وهو يقف على رأس أسرى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيًا، ثم استشفعني في هؤلاء (النتنى) يعني أسرى بدر لشفّعته فيهم." إنها شهادة من خير الأنام لصالح مشرك من قريش، فلو كان المطعم حيا لاستشفع الرسول في الأسرى، ولكان الرسول الكريم أعطاه الأسرى كلهم، جبرا بخاطر من أجاره ذات يوم وهو في حالة من الضعف والخوف. ولم يقف الرسول عند هذا المشهد الرباني الرائع، بل طلب من حسان بن ثابت الأنصاري أن يرثيه يوم وفاته بقصيدة رائعة: أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا عَلَى النّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلّمَا فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا أَجَرْتَ رَسُولَ اللّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا عَبِيدَك مَا لَبّى مُهِلّ وَأَحْرَمَا إن العبرة التي نستخلصها من هذه الحادثة التاريخية، أن الرسول الكريم يعلمنا بضرورة الاعتراف بالجميل لمن قدم لك معروفا أو خدمة بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه، أقولها اليوم وقد أصبح نكران الجميل من أهم خصال الناس، فمن التقوى أن لا يكون الإنسان جاحدا للخير ناكرا للمعروف. قال ابن حجر في الفتح: " بأنَّ ذلك مكافأة له على يدٍ كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي إمَّا مَا وقع من المطعم حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، أو كونه من أشدِّ من قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب ".