يحدث لك، وأن تدخل في حوار مع ذاتك، كما يفعل الناس في الأغلب، كلما انتهيت من مشاهدة فيلم كُنتَ قد قرأته روايةً من قَبْلُ .. - أيُّ الشكلين أفضل وأمتع وأجمل؟!. ثم لا تستقر على حسم نهائي بينهما. أنا مثلك. لم أستقر بعد على رأي حاسم، على الرغم من مرور سنوات عديدة: أيهما أحسن وأكثر إدهاشا. هل في الأدب وبالذات في (زوربا اليوناني) رواية * نيكوس كزانتزاكيس * التي قرأتُها منذ سنوات الثانوية، أم في الفيلم الذي شاهدته منذ سنوات عديدة بالأبيض والأسود، أخرجه للسينما ميكايل كاكويانيس. وإنه الفيلم الذي مازال يستهوي الجيل بعد الجيل من السينيفيليين. لا أنكر أن قراءتي رواية * زوربا * بالفرنسية وروايات عالمية أخرى عديدة، فتحت خيال الفتاة الصغيرة التي كنتُها على نوافذ واسعة عجيبة ومذهلة، ولا أنكر أيضا أنني جُبِلتُ باكرا على مشاهدة الأفلام، بحيث صغيرةً جدا كنت أرافق جدتي إلى السينما، لم يكن بعد ال *نتفليكس* قد جاء ليسهل أمر المشاهدة و الاختيار السريع في كنوز المكتبة السينمائية العالمية. ومع ذلك لا أستطيع الفصل النهائي والحاسم في التفضيل بين الأدب والسينما، فكأنهما لونان يتداخلان و يمتزجان ليصنعا لونا جديدا مختلفا. لكن أحيانا أشعر بأن قراءة الرواية على الورق، تشبه ورشة كبيرة لصناعة فيلم سينمائي على كرسي، حيث القارئ هو المخرج. وهو نفسه الواقف أمام الكاميرات، وهو الممثل، و هو المشرف على الإضاءة والصوت، وهو المسيّر عن بعد ل(الدرون)، وهو الذي يطير بالهليكوبتر، وهو المعلق فوق *لاغْرو*، وهو المسؤول عن الموسيقى، والثياب، ووسائل التمويه والخداع والتأطير، والتركيب، وهو منفذ الصورة . والقارئ هو البطولة المطلقة.. كل الروايات التي قرأتها وحولت أفلاما شاهدتها، تضعني في تحدٍّ مع المخيال،0كم كان فيلم زوربا الإغريقي حقا يقترب من أجواء تصوير قراءتي له، ولكن هذا لم يكبح فضولي ولَم يثنني عندما كنت بأثينا باليونان، أن أذهب لأرى بنفسي وعن قرب مكان رقصة زوربا وأسمع خطواته، كما رأيتها في القراءة وفي الفيلم. إنها قراءة ثالثة، جديدة، مختلفة، حية، أسرع من الضوء، صعبة على الوصف أو التصوير . أعتقد أن الروايات، وبقدر عدد قرائها، واختلاف مستوياتهم الثقافية والمعرفية والاجتماعية، حالما تُقرأ تصبح أفلاما مسجلة على شريط الذاكرة، تظل غير مكتملة الإخراج، مفتوحة على كل الاحتمالات و*التخريجات* الجديدة، في كل مناسبة العودة للتفكير بها، قابلة للإضافة والتنقيح. الرواية الواحدة بإخراج عدد قراءها واختلافه بقدر اختلافهم. نسمع من خلال شهادات البعض من الأدباء والقراء، بأن نص رواية أهم وأصدق وأجمل من الفيلم السينمائي المقتبس منها، فهل هذا يعني بأن القرّاء قادرين كل على حدة على صنع أفلامهم من الروايات بحرية أكبر، من تلك التي يفرضها عليهم المخرجون. وهنا أشير إلى تجربة *ألان روب غريي* في ثلاثيته مع السينما. وأريد أن أشير إلى أنه إذا كان للسينما الجيدة الناجحة يدا طولى في توصيل الأدب: الرواية/الفيلم إلى عدد كبير من المستهلكين ( بلغة الماركتينغ)، فإن الأعمال السينمائية الخالدة عبر التاريخ، هي تلك التي تم اقتباسها من روايات رائعة وخالدة أيضا، من لا يذكر فيلم لوليتا الرائعة المقتبس عن رواية لوليتا ل*ناباكوف*، أو الحرب والسلام المقتبس عن رواية *تولستوي*، أو البؤساء المقتبس عن رواية *فيكتور هيغو*، أو * رجال في الشمس * المقتبس عن رواية *غسان كنفاني*، أو الأرض المقتبس عن رواية *عبد الرحمن الشرقاوي*، أو اللص والكلاب المقتبس عن رواية *نجيب محفوظ* أو جيرمينال المقتبس عن رواية * إميل زولا*، أو مدام بوفاري المقتبس عن رواية *فلوبير*، وفيلم *زوربا *المقتبس عن رواية زوربا اليوناني ل*نيكوس كزانتزاكيس* وغيرها الكثير الكثير. و ما يمكن استخلاصه في هذه العلاقة (رواية/ فيلم) هو أن المخرج الناجح، مَن يقرأ الرواية بإبداع سينمائي. وللأسف الشديد فإن السينما الجزائرية هي أكثر السينمات في العالم العربي التي تُقاطع الأدب الروائي وتهجره، وحين صرحتُ صادقة بهذا منذ عدة سنوات، أثناء تقديم فيلم لمخرج جزائري قدم من الخارج، وقلتُ في مداخلتي بأن الإمكانيات الكبيرة والمواهب الجميلة الرائعة للفنانين، ينقصها نصٌّ قصصي أو روائي أو سردي متناسق وجميل . لَم يرُقْ تصريحي ذلك لبعض المخرجين. المناخ السينمائي الجزائري ظل عدوا للرواية الجزائرية بامتياز، لا يُقرأُ الأدبُ الروائي عندنا من قبل المخرجين و المخرجات إلا بالصدفة النادرة، لذا ليس سرا إن جاءت كثير من أفلامنا سطحية وارتجالية، وينقصها الخيال وينقصها التجدد و البعد الفلسفي. وما دام المخرج الجزائري هو نفسه كاتب السيناريو، وهو صاحب الفكرة ومنفذها. وهو الممثل والموسيقي. وهو كل شيء وأكبر من كل شيء، فلن يتحقق شيء جميل وناجح في الإبداع السينمائي الجزائري. أوجه ندائي للمخرجات و المخرجين الجزائريين السينمائيين والتليفزيونيين، خاصة الجيل الجديد، بأن يقرءوا الآداب القصة والرواية الجزائرية والعالمية، و سيجدون في الكثير من النصوص السردية، ما يخترق المألوف ويصل بالإنتاج الجزائري إلى الأضواء العالمية.