الجري في الغابة يمنحني صفاء وقدرة على تحمل متاعب الحياة·· أيامي تتشابه، منذ سنوات، وأنا أعيش على وقع الروتين، في عزلة تامة عن الأدباء والمثقفين، لا ألتقي أحدا، أقضي الوقت القليل، الذي تتيحه لي مهنة الصحافة، في الكتابة· لكني أحرص على تخصيص جزء من وقتي لعائلتي· ابنتاي منال وأنوشكا لا يصبران على الابتعاد عني· لا يخلدان إلى النوم إلا إذا رويت لهما قصة عجيبة مليئة بالمغامرات· هذا الأسبوع حكيت لهما قصة ''موبي ديك'' لهرمان ملفيل· أحكي القصة بشكل مبسط يليق بسنهما (سبع سنوات، وخمس سنوات ونصف)· ثم أقضي ما تبقى من الوقت في تصحيح كتابي الجديد حول العقيد هواري بومدين والثورة الجزائرية· فرغت منه منذ ثلاثة أشهر، وقد فضلت كتابته باللغة الفرنسية، على أن أترجمه إلى العربية لاحقا· إن كان لي الوقت الكافي طبعا· في الصباح أنهض باكرا· أتناول كوب ماء، مثلما يفعل الصينيون، فأشتغل على روايتي الجديدة· أكتب وأنا أستمع لموسيقى فيفالدي (الفصول الأربعة)، أو موسيقى بيتهوفن· تعوّدت على الكتابة، وأنا أستمع للموسيقى الكلاسيكية· ودون الكونسيرتو أو السوناتا لا أقدر على تحريك جملة أدبية· تعوّدت على ذلك منذ أكثر من ربع قرن· حتى أثناء القراءة تجدني أستمع للموسيقى الكلاسيكية· كثير من الروايات التي قرأتها، وانغرست في ذاكرتي بعمل أدبي، ارتبطت بموسيقى ما· ماجدة الرومي مثلا تذكرني بروايات الكاتب الفرنسي ''غي دي كار''· قبل سن العشرين، شكلت روايات هذا الأخير فضاء مفضلا بالنسبة لي· وتعيدني السمفونية الخامسة لبيتهوفن إلى أجواء رواية ''حكاية مايتا'' للبيروفي ماريو فارغاس يوسا· أما فالس تشيكوفسكي فتجعلني أستعيد ثلاثية دانتزيغ للألماني غونتر غراس· وضعت لروايتي الجديدة عنوانا أوليا هو ''بائع التوابل''· أشتغل عليها منذ ثلاث سنوات· أكتب ببطء· وفي الوقت نفسه أقرأ عن موضوعها في كتب التاريخ· وتروي قصة جزائري يخلص يهوديا من الموت خلال الحرب العالمية الثانية، حينما تم تجريد يهود الجزائر من جنسيتهم الفرنسية، فعادوا إلى وضعيتهم الأصلية، أي مجرد أنديجان· لا أريد أن أكتب هذه المرة رواية اعترافات مثلما فعلت في ''الانزلاق''، ورواية ''مرايا الخوف''· أريد إبداع شخصيات روائية، والاشتغال على الوصف، وإعطاء العمل الإبداعي بعدا معرفيا في علاقته بالتاريخ، حتى لا تصبح الرواية مجرد بوح واعتراف· الرواية عمل هندسي، ولم يخطئ عمارة لخوص لما قال لي ذات مرة ''أشعر، وأنا أكتب أنني أقوم بفعل البناء''· لم يفارقني التعب يوم السبت، الدروس التي أقدمها يوم الخميس لطلبة المدرسة العليا للصحافة تكلفني جهدا كبيرا· لم أقرأ شيئا، فضلت التلفزيون على القراءة، أعدت مشاهدة فيلم ''زوربا الإغريقي''، المقتبس عن رواية نيكوس كزانتزاكيس· الفيلم بمثابة نشيد من أجل الحياة، ورغبة في اختلاس السعادة يجسدها الرائع أنطوني كوين· وبعد ''زوربا'' شاهدت فيلم ''وسترن'' بعنوان ''أومبري''، بطولة الممثل بول نيومان، وإخراج مارتن ريت، وهو أحد المخرجين المتمردين على القيم الأمريكية لما بعد الحرب العالمية الثانية· ويشكل رفقة ''صام بيكينبا''، نموذجا للسينما الملتزمة في أمريكا· وفي كل مرة أراه من زاوية مغايرة· أنا ابن السينما الكلاسيكية، وجيلي تربى على تلك السينما القوية والملتزمة التي كانت منتشرة في قاعات السينما الجزائرية· وشكلت إلى جانب السينما الإيطالية منهلا ثقافيا وإبداعيا بالنسبة لنا· مازلت إلى اليوم أحن لأفلام فيليني، روبيرتو روسيليني، وفيتوريو دي سيكا· أملك نسخة من فيلم ''سارق الدراجة'' لفيتوريو دي سيكا، الذي يصور بالأبيض والأسود بؤس الحياة الاجتماعية في إيطاليا عقب الحرب العالمية الثانية· وكثيرا ما أعيد مشاهدة فيلم ''كم كان حبنا كبيرا'' للمخرج إيتوري سكولا، بطولة نينو مونفريدي وفيتوريو غاسمان (غاسمان الرائع، صاحب الأدوار التي لا تنسى أبدا إلى جانب الممثل ألبيرتو سوردي)· يصور الفيلم خيانة مثقف يساري لمبادئه الثورية· شارك في مقاومة الفاشية خلال الحرب الكبرى، وكان يؤمن بمجتمع عادل، لكنه انحرف عن مبادئه لما أصبح محاميا، وتزوج من بنات أحد الأغنياء· يعتبر الفيلم نموذجا ناجحا للسينما الملتزمة في إيطاليا، تلك السينما التي قتلتها العولمة، ولم يعد لها وجود· يذكرني هذا الفيلم بأغنية شهيرة لشارل أزنافور عنوانها ''كامراد''· الأحد أراني صديقي عبد الكريم أوزغلة ما اشتراه من الصالون الدولي للكتاب، أخبرته أنني لم أشتري ولو كتابا واحدا في صالون الكتاب بسبب سوء أحوالي المادية هذا الشهر· طلبت منه أن يعيرني رواية '''رجل في الظلام'' للأمريكي بول أوستير· منذ عشر سنوات أو ربما أكثر، وأنا منكب على قراءة أعمال أوستير· كتبت مقالات عديدة عن أهم رواياته، إلا ''ثلاثية نيويورك'' التي أرى أنها مقرفة· وجدت ''رجل في الظلام'' سيئة جدا· وترجمتها إلى العربية أسوأ· قام المترجم بترجمة الجملة الأولى من الرواية بشكل، وترجمها على الصفحة الرابعة للغلاف بشكل آخر· تركتها جانبا بعد قراءة بضعة صفحات، رغم أن موضوعها (انعكاسات الروح العسكرية على المجتمع الأمريكي) شيق وجدير بالاهتمام· لكن أسلوب الكتابة لم يكن في المستوى· لم أعثر على فلسفة أوستير التي تقوم على فكرة الصدفة· تذكرت الاستقبال السيئ الذي حظيت به الرواية في فرنسا، لما نزلت إلى المكتبات مترجمة إلى الفرنسية هذا الصيف، الفرنسيون يحبون أوستير كثيرا، لكنهم ليسوا منافقين· وبغية التخلص من القرف الذي سببته لي رواية ''رجل في الظلام''، قرأت بضعة صفحات من رواية '''لوليتا'' لفلاديمير نابوكوف· ونمت في ساعة متأخرة من الليل· أصابتني نوبة من الحزن يوم الأحد· أخذت كتاب صديقي حميد زناز حول إميل سيوران (المعنى والغضب)، وشرعت في القراءة· يعجبني سيوران كثيرا، مثله أتمنى العيش بدون هدف· يذكرني بالروائي المصري ألبير قصيري الذي مجّد الكسل· يا لها من فلسفة رائعة في الحياة· تمنيت لو أعيش مثله، في غرفة نزل بسيط بالحي اللاتيني بباريس، بلا قيود وبمال قليل· أستمتع دائما بقراءة سيوران، أجد فيه تلك النوستالجيا المفرطة عن زمن الطمأنينة الضائعة، وتلك مشكلة وجودية أصبحت أعاني منها في السنوات الأخيرة· قررت ممارسة الرياضة يوم الإثنين، الجري في الغابة (وبالضبط في أماكن الطفولة) يمنحني صفاء وقدرة على تحمّل متاعب الحياة· أقضي على الوساوس وكل الأفكار السوداوية التي تملأني· أصبحت إنسانا مغايرا· في الليل نمت باكرا، لكنني استيقظت عند حدود الساعة الواحدة صباحا· أصابني الأرق· أشعلت جهاز التلفزيون· مررت على قنوات عديدة، فاستقر حالي عند قناة (Toute lصhistoire)· شاهدت شريطا وثائقيا حول الجنرال ديغول، وسمعت جاك لانغ (وزير الثقافة الفرنسي الأسبق) يتحدث عن رجل الجمهورية الخامسة بكثير من التقدير والاحترام· أعجبت بطريقة الحديث عن الرموز التاريخية في فرنسا· وفي قناة أخرى، وجدت ''إيريك زيمور'' يرغي كعادته· لا تعجبني طريقته في النقد، أرى أنه يحول الكُتاب إلى جثث هامدة، بطريقة استعراضية· أمقت طريقة البحث عن المجد الأدبي بإطلاق رصاص الرحمة على الآخرين· الثلاثاء وصلت باكرا إلى البيت، كانت السادسة والنصف، اشتريت كيلو طماطم، رطل بصل ومعكرون، وجبن ''غرويير''، دخلت المطبخ، وشرعت في إعداد صلصة الطماطم، أضفت لها توابل مكسيكية هي خليط من أنواع عديدة، تركتها تطبخ على نار هادئة· أكلت وكل أفراد عائلتي المعكرون بصلصة الطماطم وجبن '''الغرويير''، كان لذيذا· أعتقد أن الطبخ فن، وتلك جملة قالها الروائي الألماني غونتر غراس· وأعرف أن المخرج الأمريكي الشهير جون وو، يقضي أوقات فراغه في المطبخ، يبدع في المطبخ مثلما يبدع في السينما· تعلمت الطبخ من والدي· كان يتفنن في طهي السمك· السيدة '''بويي'' التي تربى عندها، هي التي علمته الطهي، والسيدة بويي فرنسية من الأقدام السوداء، حكيت عنها في رواية ''مرايا الخوف''· الأربعاء كان يوما عاديا، فرغت من إعادة قراءة رواية نابوكوف، ثم شاهدت فيلم ''أليس في بلاد العجائب'' لتيم بورتون رفقة منال وأنوشكا، وفي الغد نهضت باكرا· أعددت درسا حول '''تحليل الواقعة''، وتوجهت إلى المدرسة العليا للصحافة للتدريس ككل يوم خميس· بعد ثلاث ساعات من التدريس، أحسست أنني مفرغ، وليس لي سوى نصف يوم للراحة واستعادة نشاطي·