تتشكل المرجعيات من تكديس ثقافي عادة ما ينبني على اليقين،أكثر من قيامه على النسبية الممكنة التي تفتح باب الاجتهاد. لذا يكون طابعه المغلق غاية في التعقيد. ذلك لأنه يؤمن بالحقائق المنتهية، ما يجعله منافيا للجهد العقلي الذي يؤسس على المساءلة المستمرة للنتائج الظرفية. المرجعية ليست قواعد نهائية، بقدر ما هي تأطير مرحلي، مصطلحيا ومفهوميا، لاجتهادات متباينة خلصت إلى نتيجة ما، مع أنّ هذه النتيجة قد تحمل في طياتها بذور موتها، أو قابلية تجاوز بعض العناصر المشكلة لها بالنظر إلى جانبها النسبي، أو لهشاشتها العقلية، أو لمجموعة من العوامل التي لا يمكن أن تنسجم مع الصيرورة، بقدر ما تعرقل المخيال البشري. المرجعيات بأنواعها، السردية والشعرية والأيديولوجيةعبارة عن أسناد مركبة نؤسس عليها في الابداع والتفكير والإقناع، وفي اتخاذ موقف مما يكتب ويقال، وقد لا نسهم أصلا في إنتاجها، كما يمكن أن لا نتمثلها وفق سياق إنتاجها الفعليّ.أي أننا لا نسعى، أو لا نستطيع، بقدراتنا المعرفية، فهم جذورها ومقاصدها، ومن ثمّ فإننا نتخذها مثالا، دون أن نفهم جوهرها. وإذ نتخذها مثالا، فإننا نستغني عن الأمثلة النموذجية الأخرى التي تبدو وافدة، وخاطئة بالضرورة من حيث إننا اخترنا سندنا الثابت. أشير ها هنا إلى ولعنا بالأسناد والشواهد *الرياضية*. ويمكن أن نستشهد بنثر النهضة الذي سيوجه الذوق العام لفترة معتبرة لأنه غدا قاعدة غير قابلة للنقض، وموجّها للكتابة اللاحقة لاعتبارات كثيرة، غير أدبية أحيانا،، قبل تجاوزه بتوجهات أخرى ستلعب الوظيفة ذاتها بعد أن تتكرّس: المرجعية السردية الجديدة، وهكذا. والحال إنّ كلّ مرجعية تتحكم في معارفنا بطريقتها، إذ لا يمكن الحديث عن مثال أو شاهد دون أن نكون قد مارسنا نوعا من الانحياز، بغض النظر عن طبيعته ومدى قيمته وصدقه. كما أنَ أيّ سند، مهما كانت قوّته، هو إحالة على نوع من التقديس. إنّ قولنا: كما قال أرسطو (في حالة المنطق)، أو كما قال الجاحظ (في الجانب البلاغي)، أو كما قال أبو حيان التوحيدي (في الحكي)، أو كما كتب أمبرتو إيكو أو جاك دريدا (في السيمياء والتفكيكية)، أو كما قال تودوروف ( في الحالة النقدية)، أو نجيب محفوظ أو كامو أو رشيد بوجدرة أو ماركيز( في الحالة السردية)، أو المتنبي أو الحلاَج أو رامبو ( في الحالة الشعرية )، أو الغزالي أو الشافعي أو ابن تيمية ( في الحالة العقائدية )، هو نوع منالتبني لخيارمحدد، مع ما يمكن أن يطرأ من تغييرعلى هذا الخيار الذي يرتبط بهوية مرجعية، أو بسند عينيّ له مسوّغاته السياقية. وإذا عرفنا أنَ المرجعيات متحولة، فإنّ مواقفنا من الموضوعات والأحداث والأشكال والأساليب والآراء، هي تثبيت للمرجع وتكريس له ما دمنا نحتكم إليه في التقييم، وفي محاولة تزكية الموقف الذاتي من الشيء، مع ما يمكن أن ينتج عن ذلك من أخطاء تاريخية لا يمكن إدراكها في سياقها، أو لا نريد إدراكها لأسباب تتعلق بتحصين شخصيتنا الهشة خوفا من انكسارها. لقد حدث في التاريخ الأدبي والنقدي والفكري والجمالي والفلسفي ما يشبه التسلط المرجعي للموقف، وسيحدث ذلك دائما عندما نقدس الإحالة. وقد سعت الحقب المختلفة إلى فرض نواميسها، معتقدة أنّ منظوراتها * الملائمة * تمثل الكمال، أو النموذج النهائي، أو الحقيقة المطلقة التي يتعذر تخطَيها لقوّتها المعرفية أو المنهجية أو التنظيمية أو التحليلية، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تلحق بالمرجع كخصائص مثالية تسهم في تنزيهه من الزلل: الماركسية، التحليل الاجتماعي، التحليل النفسي. نتذكر، في الحقل السردي والشعري، الضرر الذي ألحقه الموقف النقدي الغربي بالخيال الأدبي لقرون. كان العصر اللاتيني مرآة للنموذج اليوناني، لهذه المرجعية * المكتملة * من منظور القارئ، ومن ثمّ أصبح الخروج عن المرجعية *المقدسة* عبارة عن خروج عن مبادئ فنون القول، وعن البلاغة المثالية التي غدت جوهرا ثابتا. ما يعني أنَ كلّ كتابة لا تحاكي ما أنتجه اليونان، وزكاه أرسطو، لا تعدّ كتابة، بل مسخا لقواعد الكتابة ونقاء الخيال المثالي. الشيء ذاته سيتكرر في المنظومة النقدية العربية، وتحديدا في عصر الانحطاط الذي ذهب ضحية مرجعية نموذجية ألفتها الذائقة وأصبحت جزءا من تفكيرها وبيانها. لقد أشار أدونيس إلى هذا الخلل في *الثابت والمتحوّل* عندما اعتبر عصر الانحطاط عصرا أكثر تطوّرا من عصر النهضة، وذلك بسبب احتكام هذا الأخير إلى مرجعية نقلية، مقارنة بعصر الانحطاط الذي اجتهد وفق مسوّغات جديدة ليتجاوز ضغط الإحالة المكرسة خطأ. أمّا عصر النهضة فكان عصر انحطاط مزدوج بفعل ارتباطه الآلي بمرجعيتين، دون أن يستطيع محاكاتهما، أو التحكم فيهما. لا يمكن، بطبيعة الحال، اعتبار موقف أدونيس موقفا منزّها، رغم قدراته الاستثنائية على الجرد والتأصيل والموازنة والاستنتاج، لأنّ هذا الكتاب هالة من الهالات النادرة. إنّما يمكن النظر إليه كموقف أسّس بدوره على مرجعية، غربية في أغلبها، متمرّدة على الأشكال والرؤى المتواترة، وعلى مرجعية القصيدة العربية. ما يعني أنّ مواقفه، رغم جوانبها التنويرية، تظل تحت تأثير ضغط المرجعية الشعرية الغربية، والتجربة الصوفية. يمكن الإشارة إلى الدور السلبي الذي قد تلعبه بعض المرجعيات الضاغطة عندما تتحوّل إلى قوانين يتعذر اختراقها أو مناقشتها. كما حصل مع الناقد الفرنسي بوالو الذي اعتبر الحديث عن الذات مكروها. ومن الواضح أنَه استمدّ موقفه من الكتابة الكلاسيكية التي أهملت الأنا، وسارت على نهج قوامه الحديث على لسان الجماعة، كما كانت عليه الكتابات الكلاسيكية في أثينا (الظاهرة نفسها ستتكرر، وبشكل مثير، مع بعض الكتابات التي انضوت تحت راية مدرسة الواقعية الاشتراكية في روسيا)، وإذ أصبحت الجماعة قاعدة، ضاعت كتابات كثيرة بسبب المرجعية *الحاكمة* التي تفعّل قوانينها وفق رؤيتها. وقد تكون الكتابات الضائعة، أو المنبوذة من المنجز الأدبي العالمي والعربي، أهمّ من تلك التي تمّ تدويلها والاحتفاء بها (نتذكر ها هنا ما حدث لكتاب الرواية المسرحية لميخائيل بولغاكوف التي لم تطبع إلاَ بعد عشرات السنين من كتابتها بسبب مخالفتها للمرجع، ومع تغير السياقات وانحسار الأيديولوجية أصبحت من أكثر الروايات شهرة ومقروئية. الشيء ذاته بالنسبة إلى مؤلفات الكاتب سولجانتسين التي كانت متعارضة مع المرجعية السائدة، ومع السنن الضاغطة التي تتحكم في فعل الكتابة. خطابنا محدود جدا وعنيف بسبب أحادية المرجع،وافتقاره إلى المرونة، وإلى الزاد الذي تتشكل منه هذه المرجعية أو تلك، من حيث إنها نتاج حلقية، ونتاج حتمية أملتها الضرورة الفكرية والحضارية. لذا يغدو الصدام نوعا من الخصام الباهت الذي لا يبني على ركائز مؤثثة ليكسب صفة الجدل العارف، أو المؤهل لفهم المرجعية وعلتها، ثم محاولة البحث عن المجاورات والتماسات الافتراضية، والإسهام في تقارب المرجعيات وتعايشها في حدود التباين المنتج للمعنى: الثنائيات الضدية حتمية لترقية الجدل. إنّ* تسلط المرجع، وخواءه أحيانا، أو عدم تمثل جوهره ومقصديته ، كما يحدث في بعض الممارسات النقدية والثقافية، وفي الخطاب بشكل عام(الدينيوالسياسي والأدبي)، قد يسهم في التضييق على الجهد الفكري، ومن ثمّ تكريس أحادية ليست مؤهلة بالضرورة إلى مواكبة المتغيرات. ما يعني أننا نكرّس استبدادا بالدفاع عن الإحالة الثابتة: كما في حرب الأيديولوجيات المعلنة. لا يمكن أن نكون مرايا عاكسة لنسخ متساوية. لذا من المهممعرفة عدة مرجعيات من أجل اكتساب القدرة على التمييز بين المفاهيم والمسارات. النقاش الحضاري الراقي لا يحتاج إلى مرجعياتواحدة تأتي على التنوع المنتج، بقدر ما يحتاج إلى الانفتاح على الاحالات لإثراء العقل. التشبث بالمرجع الواحدليس سوى نتيجة لتسلط الموقف المغلق الذي لا علاقة له بالممكنات. العقل الكبير لا يرتبط بقيد، بل بالأسئلة التي لا تنتهي، وهي الوحيدة التي تراجع المرجعيات المتحكمة في الفكر، وفي بعض يقيننا المدمّر الذي يكشف عن هذا الإنسان الصغير المقيم في أعماقنا المظلمة.