يتربع تدريس العلوم التقنية في العالم الغربي على حيزٍ كبيرٍ في دائرة اهتمامات تلك الدول؛ التي تدرك أهمية التركيز على العلوم والتكنولوجيا في عملية التعلم المبكر الأساسي، ولأن التكنولوجيا والأبحاث العلمية تتجدد يوميًا تحتم على المؤسسات العليا التي ترعى التعليم إيجاد حلّ مدروس بعناية يجعل من عملية التعليم تواكب التطورات العلمية الحاصلة. وذلك بتجديده كل مرة وإعطائه نفسًا جديدًا. قادتني رحلة بحثٍ متواضع جدًا حول * المبادرات الفردية للأساتذة الأجانب المهتمين بالشأن العلمي والتعليمي* إلى اكتشاف أمور غريبة وأخرى عجيبة وبعضها مُحير، فعلى سبيل المثال الأستاذ الشهير جو روهل Joe Ruhl، صاحب خبرة قاربت الأربعين سنة في التعليم الثانوي بمدرسة جيفرسون الثانوية، قال في محاضرته الشهيرة، إنه عمل بطريقة التفويج المُصغر والنشاطات التجريبية الاختيارية وغيّر دوره من أستاذ ملقٍ ممل إلى موجّه يتوسط القاعة أثناء تدريس مادة البيولوجية قبل 30 سنة من الآن، وأكّد على نجاح العملية، أي أنه جعل *المُتعلم محور العملية التعليمية*، وهو نفس الشعار الذي يرتكز عليه منهاج الجيل الثاني في الجزائر حاليًا، سبقنا هذا الأستاذ المبادر وحده بثلاث عقود من الزمن، وقد قامت الرابطة الوطنية للتعليم في أمريكا بترسيم هذه المبادئ الستة كمهارات أساسية يجب على الطفل الأمريكي تعلمها قبل سن 21، وكرّمته على فكرته ومجهوده أيما تكريم. فالدول التي تحترم الإبداع وتُجيد تقدريه وتثمينه مُستعدة لتبني مبادرة فردية كهذه وجعلها مبدأ رسميًا وطنيًا. وصلت أثناء بحثي إلى التعرف على أستاذة أمريكية رائعة روعة أعمالها، البروفيسور *ريبيكا روبسون*، مؤلفة سلسلة كتب علمية فيزيائية مسلية موازية لكتب التدريس المعتمدة في الولاياتالمتحدةالأمريكية والتي كان لي شرف ترجمة جزء منها إلى العربية. الأستاذة روبسن رفقة جمعيتها الفيزيائية نظموا مهرجانًا علميًا سنة 2012، كانت الفيزياء عروسه والتلاميذ الشغوفون ضيوفها، وتقوم هذه الأستاذة رفقة طاقمها الشاب بوضع أسس لفيزياء لازلنا نسعى لبلوغ ولو جزء يسير منها، وأعمالها وحدها تحتاج دراسة كاملة، فقد صممّت نشاطات تعليمية في منتهى الدقة والاحترافية والبساطة في آن في واحد، وحسب قراءتي المتواضعة أعتقد أنها على دراية تامة بنفسية تلميذ الطور المتوسط، حيث تخاطبه من خلال كتبها بأسلوب يجمع بين الطرح العلميّ والتسلية والبحث الفردي المُثمر وربطت الفيزياء بحياة التلميذ، ولم تهمل جانب الثقافة العلمية أين كانت تجعل من علماء الفيزياء أبطالًا لقصص نسجتها من وحيّ الخيال المعقول ورحم الحقيقة العلمية، وكل هذا قبل أكثر من 10 سنوات من الآن، إذا ما استندنا إلى تاريخ تأليف كتبها، وأعتقد أن أسلوبها في التعليم كان هكذا أو أحسن قبل ذلك بكثير. أستاذ آخر، وقفت اللغة الأم لبلده عائقًا أمامي في التعمق في أعماله وطريقة عمله، الأستاذ الكرواتي * انطونيو سفيدروزيتش*، هذا الأخير أجرى دراسة مفصلة حول *البرهنة (أو المظاهرة) في تدريس الفيزياء، ما بين أسلوب البرهان التقليدي والأسلوب العصري، الدراسة نُشرت سنة 2006 في كتاب كبير الحجم يتحدث عن *منهجية تدريس الفيزياء Teaching Methodology of Physics من الصفحة 440 إلى 448 . توصل سفيدروزيتش العامل بمدرسة ابتدائية كرواتية إلى نتائج مبهرة بعد دراسة ميدانية أجراها على عينة من 82 تلميذ (صف التلاميذ يقابله عندنا صفي السنة الأولى والثانية متوسط)، وقد قام بتقسيم العينة إلى مجموعتين متساويتين، الأولى درّسها بالأسلوب التقليدي الذي عرفه على النحو التالي :* هي طريقة تقليدية يكون الطالب فيها ليس سوى مراقب سلبي ومُتلقي للمعرفة*، والمجموعة الثانية درسها بالبرهنة أو المظاهرة العصرية التي عرفها بطريقة تتُبع فيها *المراحل العلمية التالية: صنع الفرضية والمناقشة، التجربة ، الاستنتاج.* وخرج بنتيجة أكدّت مصداقية وفعاليّة البرهنة المعاصرة بفارق شاسع بعد أن قام بإجراء امتحان محكم ليس المقام مناسبًا للتفصيل فيه، كما نوّه انطونيو سفيدروزيتش إلى الوقت الكبير الذي تحتاجه الطريقة العصرية مقارنة بطريقة الإلقاء التقليدية. والطريقة التي برهن الأستاذ على فعاليتها ما هي إلا تلك الطريقة التي يشرحها منهاج الفيزياء في الجزائر بالتفصيل، وهذه الدراسة الكرواتية لصفّ يحتوي على 20 طالب فقط أثبتت أن الوقت الكافي عامل أساسي لنجاح البرهنة العصرية في تدريس العلوم، وهي نقطة في صف الأستاذ الجزائري الذي يعاني الاكتظاظ الطلابي والثقل المناهجي، والله المستعان. هذا هو الفرق بين فيزياءنا وفيزيائهم؛ فالعلم نفسه والمعرفة واحدة، لكن اللمسة تكمن في كيفية تناوله وطرحه وتقديمه للمتعلم، هؤلاء الأساتذة بمعية المؤسسات الغربية التي يعملون بها، ليسوا أفضل منا؛ فقط تجاوزونا بأشواط حين أعطوا الأستاذ حقه وقدره وقيمته العلمية ومكانته الاجتماعية، بعيدًا عن مطرقة الوزارة وسندان مفتشيها يا ولاة الأمور يا أيها القائمون الساهرون على إنجاح عملية تدريس العلوم الفيزيائية التجريبية في الوطن قفوا وقفة تأمل مصحوبة ببحث موسّع حول التطورات الحاصلة في هذا المجال، وارفعوا أيديكم عن الأستاذة المبدعين واجعلوهم في الصدارة، حفزّوهم واصنعوا منهم نماذج يقتدي بها السلف، واسمعوا وعوا لنصيحة مؤسس شركة ميكروسوفت حين قال إنه يوظف المبدعين ليُمْلُوا عليه ما يجب أن يفعل،لا أن يترأسّهم ويُقسّم عليهم الأوامر والنواهي.