يعتبر ملعب مصارعة الثيران في وهران أو لاكوريدا او les arènes d'Oran، من الكنوز العمرانية والتاريخية النادر في العالم العربي وإفريقيا. يسميه الوهرانيون « طوريرو وهران»، اقترحت على الجريدة في ذلك اليوم الربيعي الذهاب إلى الطوريرو والكتابة عن الوضعية المحزنة التي آل إليها لأن الإهمال كان قد لحق به وبدأ يتآكل بعد أن انتهى كل جمهوره ولم تعد أي هيئة تتعاقد مع ملاعب مدريد وغيرها، لجلب الثيران والمصارعين إلى كوريا وهران. لكن الذي حدث هو شيء آخر أكثر تعقيدا. لا يمكن أن نكتب عن الأشياء الحساسة بحيادية مطلقة. رحت أكتب عن طوريرو وهران فوجدتني أكتب أيضا عن كارمن، مع أنه في البداية لم يكن ذلك هو خياراتي. عندما وصلت إلى الكوريدا صباحا، كان الجو هادئا والمكان خاليا. درت على الملعب الضخم أو على الأقل هكذا بدا لي، بدأت شيئا فشيئا أسمع صوت الجماهير وهي تناصر المتادور ، وهو يواجه بشجاعة ثورا في غاية الهياج. ثم انتابتني موسيقى جورج بيزي أو أسمع واضحا بعض كلمات الأوبرا: الحب ابن بوهيمية. طائر لا يعترف بأي قانون... وجدتني فجأة أقف وجها لوجه مع كارمن، وهي في فصل صراعها الأخير مع حبيبها، كنت أعرف أننا ماتت في أندلسيا، قصة ميريمي تقول ذلك لكني رأيتها وهرانية، حددت حتى المكان الذي قتلها فيه حبيبها خوسي الذي تركته وسارت في أعقاب حبيبها الجديد بيكادور ومصارع الثيران. رأيت في ذلك الصباح الناعم كيف ترجاها بكل ما يملك من حب بأن لا تتركه، وأن تتبعه ويغادران إشبيليا. رأيته يقبل يديها وقدميها لدرجة التذلل وهي تعرف أنه سيقتلها في النهاية لأن جنونها كان قد قادها نحو غيره، حتى قبل أن يستقل خوسي سكينه ويدخله عميقا في بطنها لمرتين، قبل أن تموت بين ذراعيه وهي تكرر على مسمعه، في نفسها الأخير، بأنها لن تتخلى عن حريتها. مسيت بهدوء متتبعا آثار الدم وهو يسحبها نحو حفرة قريبة. رأيت وسمعت كل شيء. البوابات المغلقة وهي تفتح على مصراعيها. صوت الجمهور وهو يتابع المعركة مع ثور الموت الهائج هو ينحني على ركبتيه ويص أذن الثور لإهدائه إلى حبيبته كارمن ، كان كل شيء يملأ دماغي، وكان «الطوريرو « يزداد ضخامة واتساعا ، الوهرانيون يفتخرون بملعب مصارعة الثيران بوصفه أثرا يحمل الكثير من القصص والذكريات. كان يسمى « كوريدا دي لمويرتي « الوحيد في الجزائر وأفريقيا من هذا النوع. فقد تم وضع حجر الأساس لهذا الملعب les arènes d'Oran في 1908 ، وتم تدشينه بعرض كبير وساحر قس سنة 1910، هز أعماق العشرة آلاف متفرج في ذلك الصيف الوهراني الساخن وكان لملعب مصارعة الثيران جمهورا كبيرا مكونا من الأوروبيين وبعض العرب من سكان وهران، في سنوات قليلة وشهرة سريعة كونت كوريدا جمهورا عاشقا لهذه الرياضة القاسية والدموية كما يقول البعض، ويرد عليهم عشاق مصارعة الثيران: وهل الملاكمة أقل دموية؟ ،كان عشاق هذه الرياضة يأتون من بعيد لعيش أكثر اللحظات إثارة، في» كوريدا دي لامويرتي « لأنها شهدت حوادث كثيرة أدت إلى جرح المتادور جراحات بالغا، أدت في الكثير من الأحيان إلى وفاته. يصف أحد الذين حضروا حفل التدشين في كوريدا وهران في 17 جويلية 1910. كان من الصعب علي في ذلك اليوم فصل الكوريدا بكل بهائها وثقلها وقوتها وضخامتها وتاريخها، عما كنت أشعر به تجاه موت كارمن عند تلك البوابات الثقيلة. ليس لأن قصة كارمن أندلسية ، وتهمني تاريخيا ونفسيا وحتى عائليا، ولكن لأن اللحظة الأخيرة لكارمن كانت بالضبط عند بوابات الكوريدا. كريدا دي لاموريتي، لا أضيف شيئا إذا قلت إن أحداث قصة كارمن تدور في أندلوسيا، في إسبانيا الجنوبية. شابة غجرية ممتلئة بالحياة، تعيش حياتها يوما بيوم. لا تفكر في أي غد ممكن، إلى أن تلتقي ذات صدفة برجل لا يشبه الآخرين. دون خوسي. جميل. حاسم. ضبابط عسكري في فرقة الخيالة، مكلف بحراسة مصنع التبغ الصغير في إشبيليا، أو المانيفاكتوره. ونظرا لجديته، فقد كان مستعدا للذهاب بعيدا في خياراته العسكرية المستقبلية. في كل ما تريد الحصول عليه تستعمل كارمن خاصيتين غجريتين: الذكاء والأنوثة. منذ اللحظة الأولى يجد دون خوسي الباسكي (اسمه الأصلي أليثاندو) نفسه مكبلا بشخصيتها وأنوثتها. يلتقي بها. تحاول أن تورطه في لعبة شهواتها. يقاومها باللعب بمساك شعرها. فجأة ولأول مرة، تنظر إليه بعينيها المائلتين les yeux obliques. لأول مرة يكتشف امرأة بعيني كارمن. ترميه بوردة. فيشعر بأنها ليست وردة فقط ولكن خطابا مليئا بالحب. فجأة تحدث معركة في المانيفاكتوره بين كارمن وسيدة بسبب الغيرة. فتجرحها كارمن بسكينها. يضطر خوسي إلى جر كارمن إلى السجن. الواجب أملى عليه ذلك على الرغم من أنه كان مصابا بها. تحاول أن تقنعه لكي يتركها تهرب لكنه يرفض في البداية، ثم سرعان ما ينصاع لها. يسجن في مكانها لمدة شهر بسبب تقصيره. تلك اللحظة كانت بداية لتجربة حب وصلت بجنونها إلى الأقاصي. ظلت كارمن تزوره ومنشغلة به بشكل كبير. في إحدى زياراتها سلمته قطعة خبز وأخفت في داخلها مبردا صغيرا. لكنه يرفض استعماله كآلة قص للقضبان الحديدية، من أجل الهرب. قرأ ذلك بوصفه تعبيرا عن حالة حب عميق من كارمن لأنها وضعت نفسها في مخاطرة كان يمكن أن تقودها إلى السجن. بعد خروجه يجرد من رتبته العسكرية ويصبح عسكريا عاديا. يخرج برفقة كارمن ويعيشان يوما جميلا ومجنونا. لأول مرة يشعر كيف أن المرأة العاشقة، عندما تحب، تصبح قادرة على كل شيء. ويكتشف لطف وجنون كارمن، مشكلة دون خوسي نسي بأن كارمن كانت صادقة معه في حبها، ولكنها كانت أيضا في شبكة تهريب يرأسها غارسيا. فجأة يجد نفسه في عالم من العنف والتهريب والحرية، لم يتخيله من قبل. يغمض عينيه على أعمال التهريب الصغيرة التي يقوم به أصدقاؤها. فجأة تغيب كارمن، فينطلق في البحث عنها. وعندما وجدها، كانت مستلقية في سكينة لذيذة بين ذراعي ضابط آخر. تكبر غيرته لدرجة العمى، فيقتل دون خوسي الضابط، وتساعده كارمن على الهرب الى إشبيليا ليلتحق بفرقة من المهربين. وهناك يتعرف على رئيس العصابة غارسيا، الذي لم يكن إلا زوج كارمن القانوني. مرة أخرى يقوده حب كارمن دون خوسي وغيرته إلى ارتكاب جريمة جديدة بتخلصه من زوجها غارسيا. بينما يجرح هو في المنازلة. كانت كارمن مجنونة على دون خوسيه. وكان عليها أن تتدرب على حب رجل واحد والوفاء له. وتسهر عليه بكل ما أوتيت من حب إلى أن يشفى. مشكلة كارمن ليست في الخيانات المتكررة كما يراها دون خوسي، ولكن في نظام القيم نفسه. فقد كبرت حرة كغزالة. سيدة نفسها. بلا حرية تختنق. وكان من المستحيل على دون خوسي تحمل هذه المشاعة البدائية. كانت الغيرة وسيلة كارمن لاختبار قلب حبيبها. فتثير غيرته بأن تراقص وتحب شابا جميلا وأنيقا في لباس البيكادور، اللاعب في الكوريدا والمكلف بجرح الثور قبل دخوله حلبة الصراع، ظل يقاوم الوضعية ويحاول إبعادها عن البيكادور لكنه كان تحت سلطان غواياتها ، يطلب منها أن يتركا كل شيء وترافقه إلى أمريكا، لكنه ترفض كل مغرياتها. كانت جملتها القاتلة هي الفصل: أتركني، لا أحبك. يخرج سكينه الدفاعي ويرشقه فيها مرتين بضربتين قاتلتين. يبكيها بمرارة. يكتشف فجأة كيف بدأ عاشقا وانتهى مجرما وأنه لم يعد في منأى عن عقلية الغجر. يدفنها مع الخاتم الذي أهداه لها. ثم يسلم بعدها نفسها للسلطات التي سلمته بدورها للقضاء الذي حكم عليه بالإعدام. وبذلك ينتهي آخر فصل من تراجيدية سيدة الأقدار. الحتمية المميتة. فقد قذف بي « طوريرو» وهران بعيدا في عمق أندلسيا التي كانت وهران في القرن السابع عشر إحدى مدنها الأجمل في الحقبة الاستعمارية الإسبانية. بل وأدخلني في دهاليز قصة كارمن لكن لم ينسيني أبدا « لاكوريدا دي لاموريتي» أو» طوريرو» وهران الذي كان قد فقد كل ضجيجه السابق وحياته السابقة التي ما تزال ملتصقة بملعبه وحيطانه ومدرجاته،كان يموت قبل أن يتحول في فترة الإرهاب إلى مكان للتخفي قبل أن يعود إلى صمته الثقيل الذي يشبه الموت.