كانت يداها تتحرك فوق سلالم البيانو كالدمى فوق خشبة المسرح.. فعند عزفها للموسيقى تكون هي الموسيقى، لحظة انفصال أصابعها عن أصابع البيانو..انتابها شعور لا يوصف..شعور غريب.. كانت متأكدة أن الأمر ما عاد كما كان قديما..رفعت عيناها لترى غرفة ممتدة تملؤها الآلات الموسيقية العتيقة .. خطت بعض الخطوات الراقصة فظنها الناس الذين لا يتذوقون الموسيقى مجنونة..خرجت من المعهد الموسيقي وكان ذلك الشعور يزيد كلما ابتعدت عن ذلك المكان.. لكنه سرعان ما توقف..فلم يعد لديها مجرد رغبة تافهة في معرفة مصدر هذا الشعور. حينما التقت بأحد أصدقائها القدماء الذي فور رؤيتها شرد لبضع ثوان، يتأمل جمال التناسق الذي جمع شعرها الأسود الداكن وبشرتها ناصعة البياض..جمال لا مثيل له يجمع بين البياض والسواد اللونين الأصيلين بين الألوان جميعها..بعد مرور عدة دقائق من كلامهما..تبادلا أرقام الهواتف.. وافترقا..عادت للبيت وقد ملأت قلبها ذكريات جمعتهما منذ الصبا. في اليوم التالي حين اتجهت للمعهد للتدرب..اتصل بها صديقها وطلب أن يراها..فتوجهت حينها مباشرة لمقابلته. وفي هذه اللحظة..عندما نتخلى عن مواهبنا ونركض وراء حب لا أساس له من الحقيقة..غابت..وطال غيابها..أُطفأ ضوء القاعة التي تحوي الآلات الموسيقية العتيقة..وسقطت دمعات البيانو على سلالمه المكسورة الهرمة.. مرت أيام وشهور وسنون على هذه الحادثة..وافترقت الفتاة عن حبيبها.و عندها فقط أحسّت بطعم الحزن.. حزينة هي الحياة بلا موسيقى.. ميت ذلك الذي يعيش حياة صامتة..ذلك الذي لا مصدر يمده بالأمل أو شاحنا يشحن قلبه بالأمل والحب ذلك الميت الحي.. مشت الفتاة بعض الخطوات، كان الحزن يسكن قلبها الصغير، قلبها العصفور..وظلت تمشي وتمشي، والدموع ترسم ورائها طريقا وتترك آثارا للحياة، وفجأة خطرت ببالها أن ترقص.. حنّت إلى الماضي وبدأت تسمع عزفها على البيانو العتيق..أغمضت عينيها وأخذت تحرك جسمها بإيقاع دقيق.. وعندما فتحتهما وجدت نفسها أمام المعهد ، دخلت الغرفة المظلمة، مر أمام عينيها وهي بين الحلم واليقظة، شريطا ضم العازفين جميعهم الذين عزفوا، ذات زمن، على هذه الآلات العتيقة التي تنبعث منها رائحة الحياة..الكمان والناي، العود والقيثارة ،أما البيانو فقد كان مغطىيتوسط القاعة المظلمة، رفعت الغطاء عنه ومسحت الغبار الذي كسا سلالمه ،غبارذكرها بفترة غيابها الطويلة.. تمتمت بعض الكلمات وهي تستعد للبدء بالعزف : «لم يعد إلا صدى صوتك يرّن بأذني..معاً.. كنّا نسرق من أيامنا لحظات جميلة. كنت تقاسمني أحزانيوأفراحي..ومع ذلك خذلتك و تركتك.. آسفة..» حاولت أن تتذكر آخر ما كانت تقدر على عزفه..لكنّها بعد عزف بضع نوتات أخطأت.. لجأت إلى أوراق الصولفاج خاصتها .. إلّا أنها لم تستطع حتى أن تقرأها..وهنا فقدت الفتاة موهبتها للأبد.. مفاهيم الموت لدى الناس تختلف .. فهناك من يظن ان من مات واستراح هو الميت ..وهناك من يحّس الموت حين يحاصره الفشل من كل الجهات..لكن أصعبهم هو أن يفقد الشخص موهبته..حينها تنتهي صلاحيته في الحياة..ولا يبقى له فوق الأرض ما يستحق البقاء.