وأنت تجلس إليه، تشعر بأنك تجلس لشاب تنبع من أنامله الأنغام حينما تمر أنامله على أوتار القانون، يأخذك مع هذه الآلة الأسطورية إلى عالم سحري تطير فيه أسراب الألحان وتطوف بك حيث الصفاء النفسي والفضاء الروحي، وكأنما تعرج بك تسبيحا إلى السماء، هكذا كانت هذه الآلة صوتا للروح ولحنا للسمو والصفاء، إذا ما مرت على أوتارها الأنامل المبدعة، أنامل عازف القانون، صابر عبد الستار، الذي التقت به جريدة المساء في إطار الأيام الثقافية لجمهورية مصر العربية في تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية .2011 المساء: كيف كانت بدايتك مع الموسيقى؟ صابر عبد الستار: بدأت مع أب مطرب وهو عبد الستار شيحة، وكان يغني في فرقة الانشاد الديني ''دار الأوبرا'' فكنت دائما في البيت أسمع الغناء، وكان والدي يعزف على آلة العود ويؤلف الكلمات، وأذكر أنه قام ذات صباح فكتب جملة شعرية على علبة كبريت يقول فيها: ''يا سلام على ساعة الصبحية والشمس عروسة في الصباحية'' وكذلك كان الوالد يحب اقتناء الآلات الموسيقية، وكان عندنا في البيت ''كترباص'' و''الفيولا'' و''الكمان'' وقانون قديم جدا، فتركت كل تلك الآلات وذهبت إلى القانون. - بدايتك مع القانون لم تكن مع الوالد؟ * وأنا طفل صغير لقيت كمية أوتار وأحسست أن القانون آلة عظيمة وعريقة، ولذلك بدأت أسأل عنها، فوالدي لم يكن على القانون ولم تكن له معلومات في القانون، ولهذه الأسباب سجلني في معهد الموسيقى العربية التابع لأكاديمية الفنون بالقاهرة، درست في المعهد مدة سبع سنوات، وفي السنوات الثلاث الأولى كان كل من يسمعني يتركني ويمضي، وكنت لا أفهم سبب ذلك فسألت بعض الناس الذين كانوا يعملون معي عن هذا التصرف، ومنهم من كان يقدرني فنيا، سألته لماذا هذا التصرف فكانت إجابته غريبة حيث قال لي: سمعت لك أسلوبا غير تقليدي، أسلوبا خاصا، وأحسست أن موسيقاك أكبر من سنك، وفي سنك هذا لا يمكن أن تكون أنت من ابتكر هذا الأسلوب، ولكن بعد استمراري في العزف بهذه الطريقة، بدأ الجميع يتأكد بأن هذا العزف وبهذا الأسلوب المبتكر أنه هو أسلوبي الخاص. - هل حاز عازف القانون على الجوائز؟ * في السنة الثالثة في معهد الموسيقى العربية دخلت مسابقة في مصر، وهي خاصة بالعزف على آلة القانون كان اسمها مسابقة مدحت عاصم تابعة للمجلس الأعلى للثقافة والفنون، وفزت بالجائزة الثانية بينما الجائزة الأولى حجبت لأنه كان مطلوب ''كونشيرتو'' القانون للمؤلوف رفعت جرانة، وكان ''كونشيرتو'' يتطلب مصاحبة أوركسترا كاملة، وهذا كان مكلفا جدا وليس باستطاعتي، وكان من الممكن تعويضه بالبيانو فقط، ولكن المؤلف لم يكتب للبيانو. - وهل هناك مسابقات أخرى شاركت فيها؟ * هناك مسابقة دولية نظمت سنة 1994 بدار الأوبيرا على هامش مهرجان الموسيقى العربية، وفزت في هذه المسابقة بالجائزة الثالثة مناصفة مع دكتورة من الكويت، وكان في هذه المسابقة ظلم واجحاف، لأن فيها من المجاملات ما فيها، إلا أني عوضت ذلك الظلم والاجحاف في مسابقة نظمت بالجزائر سنة 2001 على ''الأثير'' الهواء وفزت بالجائزة الأولى. - الآلات الغربية تغزو الوطن العربي فكيف يمكننا المحافظة على آصالتها في هذا الإنزال الثقافي؟ * الآلات الغربية فعلا تغزو الوطن العربي، والآلات الغربية مثلها مثل المنتوجات والموضات، وإن نحن قررنا اتباع الغرب وتقليده فهذا ليس من الابداع في شيء ولا يمكننا أن نضيف شيئا للإبداع، الموسيقى العربية لا تزال قائمة والآلات الموسيقية الأصيلة موجودة وصوت القاهرة للانتاج الفني ليومنا هذا ما يزال يطبع أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وشرائط المطربين الكبار مازالت تباع لحد الآن، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن الشباب يقبل على مثل هذه الأغاني ويتذوقها، وقد سبق لي تجربة في هذا حين ذهبت لباريس وزرت متحف ''لوفر'' وكنت مع خماسي من فرقة الموسيقى العربية، وكنا نقدم الأغاني التراثية المصرية فتفاجأنا بالجمهور الفرنسي وهو يطلب منا أغنية ''أنت عمري'' لكوكب الشرق أم كلثوم، لأنهم تذوقوا من خلالها الفن العربي الأصيل. - هل تأثرت الموسيقى المصرية بالموسيقى التركية، وهل تستمعون إلى الموسيقى الأندلسية؟ * فترة الأتراك أنتجت موسيقى درويش، وهناك تأثر متبادل بين الأتراك ومصر، أخذ الأتراك منا الموسيقى وأخذنا منهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تلافح الثقافات فيما بينها، نحن لم نسمع الموسيقى الأندلسية وإنما نسمع بالشاب مامي وخالد، لا أحد يسمع كلمة المالوف ولا الحوزي ولا حتى الموسيقيين، وهذا يعود إلى الاعلام وعدم التواصل. - كيف وجدت عاصمة الثقافة الاسلامية تلمسان؟ * البلد فيها سيمة روحانية عالية، وفيها من الطيبة والخضرة الموجودة تؤدي إلى راحة نفسية اللون الأخضر، فيها حالة من الصوفية والطيبة هي التدين والفطرة هما أهم سيمة في المسلم،. - كيف ترى التعاون الموسيقي بين الجزائر ومصر؟ * قدمنا ''التسابيح'' وهي قطعة صوفية من تأليفي، أضفتها إلى البرنامج، وحضرت أغنية وردة مع بليغ حمدي، وهو التعاون الثنائي بين بليغ ووردة، وهما كانا يكتبان ويؤلفان كلمات الأغنية ويلحنانها مع بعض، وبأغاني وردة وموسيقى بليغ تم اثراء الموسيقى العربية التي ماتزال بيننا لحد الساعة على رأي صلاح جاهين الذي قال في المثل ''ألّى خلف مامتش'' وعن بليغ ووردة نقول ألّى ألف مامتش''. - كيف تقيمون دور الفن في الثورة المصرية؟ * كان في ميدان التحرير الشباب يتجمع بالأغاني المؤلفة خصيصا للثورة من قبل الشباب أنفسهم، وتمتاز هذه الأغاني بالبساطة في اللحن وهي عبارة عن جملة أوجملتين وكانت تكتب على اللافتات وهي قريبة من الهتاف كقولهم: ''الثورة علت الصوت،، على وعلي الصوت الي بيهتف ميش حيموت'' أما الشيء الجميل في هذه الثورة فإننا سمعنا أغاني ثورة 1952 ولم يسبق لنا سماعها أبدا وكنا نسمع فقط أغاني عن مبارك وكأنه وحده الذي عمل الثورة. - ماهو جديد صابر عبد الستار؟ * عندي فكرة جديدة جسدتها، وهي أنني أعزف بالقانون الموسيقى الكلاسيكية الغربية موسيقى الحجرة ''الكوارتت''، المؤلف من أربعة عازفين واللحن الأساسي تتفرع منه ثلاثة ألحان تتوافق معه ''رباعي وتري'' وهو مكون من ''كمنجتين'' و''تشلو'' و''فيولا''، أنا ألعب دور الكمنجة الأولى الذي هو اللحن الأساسي وأقدم من أعمال موزار، وسبب هذه الفكرة أن الآلة الغربية متوطنة في الوطن العربي مثل ''الأوغ'' و''الدرمز'' و''الساكس فون'' فلماذا لا نحاول توطين الآلات العربية في الغرب ونشتغل على الألحان الغربية بالعود والقانون، لأن العود آلة فيها سهولة في العزف والقانون صاحبه يكون أكثر تركيزا إذا حاولنا التعريف بالآلتين الوتريتين، والعود هو أقرب آلة للطرب، الآلات الغربية موجودة كلها والآلات العربية غير موجودة في الغرب والتقصير منا، ولهذا نحن نسمعهم ''الكورتت موسيقاهم، والكورتت يحتاج الى عازفين مهرة. - كلمة أخيرة؟ * الجزائر تمشي بخطوات ثابتة وسريعة جدا من كل النواحي للنهوض بالإنسان روحانيا وجسديا، زرت الجزائر قبل الآن فلم يكن فيها هذا الانفتاح حتى نعتكم بالعصبية التي كانت تصلنا ليست حقيقة وإنما تشويه، وأخيرا أدعو إلى إنشاء بيت قانون عربي على غرار بيت العود العربي، لإحياء التراث العربي المشترك والمحافظة عليه من الاندثار ونقله إلى الأجيال القادمة، خصوصا ونحن نعيش حربا ثقافية كونية لا ترحم، وأنا على استعداد تام لتسجيد هذا المشروع.