هكذا ومنذ تلك اللحظة، كان الحب قدره. من.. كاتب ياسين ؟ نعم هو الذي مازالت الدوائر الأدبية والثقافية في العالم تحتفل بموهبته وقوة شِعره وأدبه وفرادة إبداعه. وآخره احتفال به أسعدني جدا قبل أيام حيث تم اختيار روايته (المضلع المرصع بالنجوم ) من بين أفضل مائة رواية عالمية . إنه هو بالذات. ذلك الذي على حين غرة، وعلى غفلة منه ومن الزمن، كان في قريته «قبلوت» النائية الرازحة تحت الاستعمار الفرنسي، فدق كاتب ياسين ذو السادسة عشرة من العمر بيده بعض النقرات على خشب مدخل البيت العائلي الكبير. وإذ فتحت «نجمة» له الباب، نجمة ابنة عمه ذات السادسة والعشرين من عمرها. نجمة المتزوجة. وقع قلبه على جمالها. وإذ وقع، وقع ما لم يكن في الحسبان. وقع للتو في حبها، ومن لحظتها خُلقت أسطورة اسمها «نجمة «، وخلق معها أديب مختلف متمرد اسمه كاتب ياسين 1929-1989 . كاتب ياسين المشعُّ ذكاؤه، الممتلئ قلبه بفضول الحياة، تعلم العربية في الكُتّاب، ثم اللغة الفرنسية في المدرسة التي سيصف وضعيتها بعد الاستقلال بعبارته ذائع الصيت (اللغة الفرنسية غنيمة حرب). يلتحق الشاب بالمدرسة الداخلية بسطيف. ومن هنا كان لتاريخ البلاد اليد العليا في رسم مصير كاتب ياسين الشاب الذي رأى بأم عينيه دم آلاف الشهداء في أحداث سطيف وخراطة 1945 . الأحداث التي شارك فيها واعتقل وسجن. وحين خرج بعد فترةِ سجنِه وجد أمه قد هزمها الخوف البغيض على وليدها وأفقدها عقلها وصوابها وألقى بها في مجاهل الجنون. إنها البداية وإنه لن يغفر للمتسبب في كل ذلك الخراب. -أين هي حبيبته نجمة ؟ تحولت. نعم..أضحت في صورة بلاد بأكملها: نجمة/الجزائر. أصبحت صورة وطن مبهر الجمال، غني بتاريخه وجغرافيته مترامية الأطراف، ولهجاته وثقافاته، وثرواته تحت الأرض وفوقها. وطاقاته البشرية. غيّر كاتب ياسين مجرى حبه الجارف لنجمة. تركه يستقر إلى الأبد في أعماقه، مثل نبتة سرية و سحرية غير قابلة للذبول، يصعد أريجها إلى روحه طيلة حياته الأدبية والنضالية. يكتب كاتب ياسين «نجمة» روايته الشهيرة، فلا تكاد الآراء تستقر على أنها حبيبته حتى تفسرها الأخرى على أنها الجزائر. تختلف حوله الآراء ولكنه لا يُنسى، ولا يتنكر له التاريخ. كاتب ياسين ما فتئ منفردا ومتفردا في شعره ونصوصه ومسرحه، على الرغم من تلاطم محيط الكتابة والكتاب فلا يقارن بإيمي سيزير، و لا كلوديل، و لا رامبو، وقد صرح هو نفسه قائلا: - لو أنني قلدت بودلير أو رامبو لما نجحت .! سر نجاحه هو ارتباطه بالناس منذ أن اكتشف معنى النضال والأفكار الثورية، لم يخن وعيه الثوري بل عمّقه بالبحث عن حياة الأدب داخل حياة الناس البسطاء، و العمال، و المغتربين. وهو الذي في هذا يفضل موقف فولكنر في رواياته على ألبير كامو، فالأدب الذي ينبع من نهر الحياة يظل يبهر قراءه إلى الأبد. وليس ببعيد، فمنذ أيام قليلة اختارت صحيفة لوموند الفرنسية الشهيرة روايته (المضلع المرصع بالنجوم) من بين أهم 100 رواية في العالم التي أحبها قراء الجريدة على مدى عشرات السنين، وأعجب بها نقادها منذ1944. وفاجأ هذا الاختيار المراقبين والأدباء الجزائريين والعرب. فمنهم من رحّب ومنهم من شَجَب. لكن رواية كاتب ياسين « المضلع المرصع بالنجوم» كانت الوحيدة المختارة من الريبرتوار الروائي المغاربي والعربي . يتفرد كاتب ياسين منذ مجموعته الشعرية (مناجاة) 1945مرورا ب(الجثة المطوقة) أو (المرأة المتوحشة) و(نجمة) و(المضلع المرصع بالنجوم) التي هي أجزاء من روايته نجمة اقتُطعت منها باقتراح من دار لوسوي، كما يتفرد في أعماله الأخرى الشعرية والمسرحية والأدبية. كان يكابد محنة الكتابة، مع ظروف العيش التي طالما أجبرته على قطع حبل سرة العمل الإبداعي الذي بين يديه مؤقتا، للذهاب للعمل وجلب قوته. لم تكن لديه مكتبة دائمة ولا مكتب في غرفة مريحة. ومع ذلك فتح كاتب ياسين بابا جديدة على إفريقيا ولَم يظل ظلا لبريخت ولا لبيكيت ولا ليونيسكو. في آرائه ورحلاته وأسفاره وعزلته بقي كاتب ياسين وفيا لشعبه، مسكونا بموسيقاه وثقافته وخصوصياته، حتى وإن استعمل اللغة الفرنسية التي نصحه والده بتعلمها، والده المثقف مزدوج اللغة كان يراها سلاحا قويا آنذاك بين يدي ابنه، وهو يطمئنه بأنه يستطيع أن يعود للعربية متى ما شاء. من جديد يحتفل مهندسو الرأي في لوموند بكاتب ياسين وعلى مستوى عالمي؛ ومن جديد لن ينتهي كاتب ياسين من إبهار من يقرأه لأنه ظل وفيّا لبلده وشعبه ونجمته ومنبعه الذي لا ينضب وكما ذكر ذلك في (المضلع المرصع بالنجوم ) وهو يبوح ببساطة لمن يسأله: - ليس لدي موضوع محدد.. لديّ أشياء كثيرة للإفضاء. ومن مسرحيات الأقدار العجيبة التي لم يكتبها كاتب ياسين هي أن الطائرة التي كانت تُقِل جثمان كاتب ياسين إلى الجزائر، كانت تحمل على متنها أيضا محبوبته «نجمة»، التي كانت ترافق جثمان أخيها المسرحي الكبير وابن عم ياسين مصطفى كاتب.