استضاف البيت العربي بالعاصمة الإسبانية مدريد المخرج المصري "خالد يوسف" للحديث عن مشروعه السينمائي الذي يحضّر له منذ فترة، ويتعلق الأمر بفيلم تاريخي حول سقوط الأندلس، كان قد سبق وأعلن أن تصويره سيكون بالجزائر، وبمشاركة دول عربية، وجاءت الدعوة لفتح النقاش حول هذه التجربة التي يخوضها المخرج في الأعمال التاريخية بعد عرض آخر أعماله "كارما"، بالبيت العربي، وهو مؤسسة تابعة للحكومة الاسبانية، تأسست في سنة 2006 بغية تعزيز العلاقات الثنائية العربية الإسبانية، وهو مساحة لتبادل المعارف والتفكير المشترك ونقطة التقاء بين اسبانيا والعالم العربي، خاصة وأن بينهما تاريخ مشترك طويل ومثمر. استهل المخرج المصري "خالد يوسف" الندوة بحديثه عن ثلاثة أسئلة، اعتبرها مفتاح فهم حقيقة الوجود الإسلامي في الأندلس، وهذه الأسئلة هي: لماذا دخل المسلمون إلى الأندلس؟ ، كيف كان المكوث وكيف كان الخروج؟، وأكد وجود اختلاف كبير على المستوى المفاهيمي لدى المؤرخين من الجانبين (العرب والغربيين)، ويخلص المتحدّث بعد مناقشته لآراء المؤرخين أنه لا ينحاز لأي من الاتجاهين، فهو يرى أن تاريخ المسلمين في الأندلس شكّل حلقة من التفاعل بين الإسبان والعرب، رغم ما تخلله من لحظات حرب وقتل ، ولكن أيضا لحظات حب وتقارب، لكن هذه الأرض التي عاش عليها المسلمون والمسيحيون واليهود كانت بؤرة أسهمت عميقا في الحضارة الغربية التي شهدتها أوروبا في العصر الحديث. يخندق "خالد يوسف" رؤيته للفيلم بأنها قائمة على قانون الحتمية التاريخية، بحيث أن العرب كانوا يمتلكون الحضارة الأولى، وإن كانت فيها هواجس الغزو –كما يقول البعض- إلا أنها كانت تمتلك القوة الثقافية قبل العسكرية، وعندما وهنت هذه الثقافة وعجزت عن تقديم المزيد من العطاء لأسباب مختلفة، جاءت الثقافة الغربية لتواصل مسار البناء الإنساني للحضارة، ففي النهاية الحضارة التي نعيشها ليست سوى تراكما لتجارب الإنسان. ترك المجال بعدها للمناقشين، حيث تساءلت Elizabeth Drayson-المتخصصة في التاريخ الثقافي لإسبانيا في العصور الوسطى والأدب الإسباني- ، عن صورة الملك أبو عبد الله في الفيلم، وبدا المخرج في موضع الدفاع الشرس عن هذه الشخصية التي حمّلها المسلمون مسؤولية سقوط غرناطة ،وصبّ عليه العرب اللعنات، والمشهد الذي يعكس ذلك عندما كان مغادرا قصره وينظر وراءه النظرة الأخيرة، تلك الأبيات الشعرية التي تتناقلها الألسن، والتي تنسب لوالدته عائشة: إبكِ مثلَ النِّساءِ ملُكاً مُضاعاً.. لم تحافظ عليه مثلَ الرِّجالِ فالملك أبو عبد الله في التاريخ هو ذلك المهزوم الذي سمّاه بعض أهل غرناطة بالمشؤوم وسمّاه الإسبان بالصغير أو الولد " شيكو "، حيث يذهب المؤرخ إلى أن لديه رؤية أخرى، فالملك أبو عبد الله -حسبه-كان يرى أنه منته لا محالة بعد أن اتحدت القوى المحيطة به واتفقت على إسقاط حكم المسلمين، ويحاول خالد يوسف تشخيص نفسية أبو عبد الله، حين اعتبر تجربة الأسر التي تعرّض لها في "لوسينا"، محطة هامة في شخصية الرجل، خاصة وأنه من الملوك القلائل في التاريخ الذي أسروا، فالملوك "إما أن يموتوا أو ينتصروا". عندما سقطت غرناطة كان ملكها في ريعان شبابه، وكان بمقدوره أن يقاوم لسنوات أخرى ويؤخر سقوط آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، لكن تجربة الأسر التي عاشها كانت قاسية–حسب روايته-، لأنهم وضعوه في قفص وجروه بالعربة على الأحصنة في الشوارع ، وفي جانبي الطريق إسبان يرمونه بالحجارة ويشتمونه وعرب ينظرون إليه بحزن ويذرفون لأجله الدموع؛ غير أنه لم يكن ينظر للفريقين، بل كانت عيناه محدقتان في المباني والنقوش والمنشآت كيف هدمت وبدأت تختفي معالم الحضارة الاسلامية، هذا ما كان يؤلمه ويفكر فيه في تلك اللحظات تحديدا. إن الخوف من مصير مشابه قد تتعرض له غرناطة هو ما دفع أبو عبد الله إلى الاستسلام، لأن المواجهة العسكرية ستنتهي بالانتقام من المعالم الإسلامية للمدينة، وسينتهي أثر الحضارة الإسلامية هناك بعد قرون من الإنجازات، وهو ما يفسّر اشتراط أبو عبد الله عند تنازله عن العرش واستسلامه لشرطين أساسيين: حرية العبادة لليهود والمسلمين، وعدم المساس بالمباني والنقوش الإسلامية ومختلف معالم المدينة، وقد أقر أبو عبد الله الشرط الأخير، لأن الكثير من المنشآت الاسلامية تم الاعتداء عليها وتحطيمها في العديد من المدن بشبه الجزيرة الإيبيرية؛ وبهكذا موقف يكون قد قرر الانحياز للحضارة وللفن وتنازل عن الملك، وبالتالي فقد انتصر للإنسان. في ردّه على تعقيب الأستاذ Alejandro García sanjuán المختص في تاريخ الأندلس- قال المخرج أنه ليس من واجبه القيام بعمل المؤرخين والبحث في الأصول، لكنه يقوم بتقديم رؤيته، لأن الفن لا يؤرخ بل هو رؤية في التاريخ، ويعقب قائلا أنه لا ينبغي أن يكون هناك انفصام في الهوية الإسبانية، بحيث ينبغي على الأجيال الجديدة أن تدرك بأن الفترة الأندلسية جزء من تاريخها وكينونتها، وعليها أن تفتخر بهذه الحضارة التي مرّت من هنا، ويعود لها الفضل في الكثير من المنجزات الحضارية الحالية، فالتاريخ الإسباني لا يبدأ من ثلاثة قرون، بل إنه ممتد في أعماق التاريخ، والمنجز الذي تحقق على هذه الأرض يحق للإسبان أيضا أن يفتخروا به، وضرب مثالا فيما لو أن أبا عبد الله وافق على تمويل الحملاتالاستكشافية لكانت الكشوفات الجغرافية التي تحققت بعد سنوات منجزات ضمن الرصيد الإسلامي، غير أن قانون الدورة الحضارية أراد غير ذلك ، كما أن موسيقى الفلامنكو ، والتي هي نتاج قرون من الزمن، كانت وليدة امتزاج التراتيل اليهودية بالموشحات والآهات العربية بالريتم الغربي. ويسدل على ما يقول بأن غرناطة هي المدينة الأكثر احتفاظا بمخزونها المعماري، والأمر يرجع إلى أنها سلّمت بناء على معاهدة استسلام، وقد أثبت التاريخ أن الملوك الإسبان قد التزموا بشرط الإبقاء على المعمار إلا أنهم انتهكوا قيمة حرية العبادة التي أراد لها أبو عبد الله أن تستمر بعد سقوط الحكم الإسلامي هناك. وفي تفاعله من أسئلة الحاضرين يقول خالد يوسف إن العمل السينمائي الذي يحضّر له لن يكون مكرّسا فقط لرجال البلاط، بل إنه يوجه عدسته أيضا لفئة العامة، حيث يصور مشاهد في سوق البيّازين، وأشار إلى ضرورة الاستثمار في رأس المال العربي في الانتاج السينمائي خاصة ما تعلق بهذه المواضيع التي تكرّس التقارب مع الآخر، وهو ما يأمله أيضا من الطرف الأوروبي.