قد نجد في الأدب العالمي روايات وقصصا خيالية، أو روايات رعب مثيرة تطرقت إلى تفاصيل شبيهة بما نعثر عليه في النصوص الكلاسيكية التي تحدثت عن المستقبل قبل الوقت، كرواية " 1984 " للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، أو رواية " مزرعة الحيوان " للكاتب نفسه، أو رواية "الأم" لمكسيم غوركي. ثمة، في هذه النصوص أعمال استبقت الأحداث،كرواية "نهاية العالم" للكاتب ستيفن كينغ (1947) التي يتحدث فيها عن ظهور أنفلونزا جديدة ستنتشر بقوة، أنفلونزا معدّلة في مخابر عسكرية أمريكية تشتغل سرّا، وسيغدو هذا الفيروس لاحقا سلاحا بيولوجيا مدمّرا يخلف آلاف الضحايا حيثما حلّ، وسيكون الناس عاجزين عن السيطرة عليه لسرعة انتشاره وغرابته. الرواية هذه تطرح ، قبل الوقت، مشكلة وجودية انطلاقا من تمظهرات الواقع السياسي والاجتماعي، ورغم أنها خيالية، إلا أنها تتقاطع، في جزء كبير منها، مع المحتمل، أو مع ما يمكن أن تقوم به الأنظمة تكريسا لمنظوراتها المنافية للأخلاق والقيم ، هذا النص العارف ذكر جزئيات تكاد تكون واقعية، لمن يعتقد بأن الأمراض قد تصنع في مخابر متخصصة لأغراض اقتصادية أو مالية، أو بهدف تغيير خريطة العالم وفق مشيئة القوى الكبرى التي عادة ما تراهن على المال والقوة لتثبيت ذاتها. سيقدم لنا كتاب: "لماذا يكذب القادة" لجون جي ميرشايمر، صورة دقيقة عمّا يحدث في الخفاء، وما بين القادة، بعيدا عن مدارك الأمم الخاضعة، أو تلك التي تثق بخطاب المسؤولين. كتاب" نهاية العالم "منعرج غريب في الكتابة عن الأوبئة الممكنة. لذا نصحت جريدة "الأندبندنث" البريطانية من يؤمنون بنهاية العالم قريبا بالاطلاع عليه نظرا لقيمته الكبرى في الطرح، وفي التعامل مع الواقع والممكن، مشيرة، في آن واحد، إلى أنّ الرئيس الأمريكي الحالي " دونالد ترامب" قد يكون، بحسب التجليات، أحد الأطراف المشاركة في قيام حرب نووية أو فيروسية تأتي على ما أنجزته الحضارة عبر السنين، ومن ثمّ إمكانية قضائه على الحياة برمتها. نشير، في هذا المقام إلى اهتمامات الكاتب البرتغالي خوزي ساراماغو ( 1922 2010). لقد كتب رواية "العمى" سنة 1995، مركزا على مرض غريب يصيب البشر فجأة، دون أن يعرفوا سببه أو مصدره. اسم هذا الداء، بحسب الرواية، العمى الأبيض. سيسعى المسؤولون بسببه إلى فرض الحجر الصحي على الساكنة في مشفى معزول عن المدينة، ومع تزايد المصابين تتفكك القيم والروابط الاجتماعية قاطبة، ويتعرى المجتمع ليكشف عن حقيقته الخفية التي طالما بقيت مجهولة،. مع ذلك سيظل بعض الأفراد الملتزمين يعملون على تحقيق المصلحة العامة كقيمة إنسانية خالدة ، بعيدا عن القطيع الذي يتسبب في فوضى يتعذر التحكم فيها. الرواية رمزية في جوهرها، لكنها تستمد حقيقتها من الفرضيات، من هذه النظرة الثاقبة للمجتمعات في تشكلاتها، من حقيقتها المضمرة التي لا يكشف عنها القول والظاهر كسمتين غالبتين على السلوك البشري. تقول زوجة الطبيب في خاتمة الرواية، معلقة على هذا الكائن الغامض الذي يسمى الإنسان: " لا أظن أننا أصبنا بالعمى، بل أظن أننا عميان بإمكانهم أن يروا، غير أنهم لا يرغبون في ذلك". وهناك، إلى جانب هالة العمى، رواية الكاتب الأمريكي دين كونتز( 1945) الموسومة ب "عيون الظلام"، وهي رواية عارفة صدرت عام 1981. أمّا ما يميزها عن غيرها فهو التفصيل الدقيق في الأحداث التي تتطابق أحيانا مع علامات كورونا المستحدثة. لقد تطرق الكاتب، ببعض الغرابة، إلى ظهور فيروس غريب في مدينة ووهان الصينية، لينتشر بعد ذلك بشكل يتعذر السيطرة عليه طبيا لغموضه وسطوته وقوته الفتاكة، وبصرف النظر عن الجانب الرمزي للكتاب، فإنه يتنبأ بالوباء، ببعض المتغيرات التي تدخل في باب الخيال، مع أنها تبدو من صميم الواقع. أمّا كيف ركز على مدينة ووهان، فتلك مسألة قد تكون ذات علاقة بمعايناته، أو بقراءاته المركبة وتجربته التي استطاعت تحديد مكان الوباء بدقة متناهية، كما لو أنه كان يعيش في المستقبل والحاضر معا. هناك معرفة كبيرة، وعبقرية أيضا، ما جعلت الكاتب يتنبأ بتفاصيل يصعب الوصول إليها بكتابة ظرفية، وتبسيطية. قبل ذلك بكثير كتب القاص والشاعر والناقد الأمريكي إدغار ألان بو (1809 1849)، رائد القصة القصيرة في العالم، قصة بعنوان " قناع الموت الأحمر" (1842)، وقد تحدث فيها عن هذا الوباء الغريب الذي أصاب البلدة كلها، ما يضطر الأمير إلى الاحتماء بالدير للنجاة من الموت، لكنّ شخصية متنكرة ستزور المكان والغرف تباعا (الموت الأحمر)، وهكذا يصاب الأمير والضيوف ويموتون. القصة فلسفية، كما يبدو، وهي تتطرق إلى القدر، وإلى المصير المؤكد للجميع. وقبل " إدغار ألان بو " بكثير ألّف الإيطالي " جيوفاني بوكاتشيو" كتاب "ديكاميرون"، وهو تحفة ذائعة الصيت، وموضوع عدة دراسات غربية. كما يمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى رواية "مجلة الطاعون" للكاتب الإنجليزي دانيال دينو (1660 1736)، أحد مؤسسي الرواية الإنجليزية، وصاحب تحفة" روبنسون كروزو" الشهيرة، ومقولة: " جيش من الخرفان يقوده أسد، أفضل من جيش من الأسود يقودها خروف".المؤلف يتناول فيه هذا الوباء بإحاطة لافتة، رغم أنه كتب قبل أزيد من ثلاثة قرون. وتتفق بعض الأعمال، أو أغلبها، على ثنائية الخير والشرّ التي تتحكم في العنصر البشري منذ القدم. أمّا الأغرب في ذلك ، فإنّ جلّ النصوص جعلت الحبّ مركزا للمرويات، كما فعل ماركيز، مع ما يميزها من تناول قضايا إنسانية خالدة، وأغلبها يتعلق بسقوط القيم، ظهور النزعة الفردانية، التضحية العبثية، ضياع المجتمعات، تراجع الخير، وهيمنة القوى البورجوازية الشريرة على مجتمعات اتسمت بالنزعة البدائية، وبالرغبة في التنازل عن القيم السامية لفائدة قناعات جديدة لا تخدم الإنسان، هل هذا يعني أنّ ثمة روايات، رغم طابعها الخيالي المحض، استبقت وقتنا للحديث عن أوبئة قادمة، وذلك بقراءة صيرورة الواقع قراءة متأنية، وعارفة بطبيعة حركة التاريخ وتفاصيلها؟ ، ربّما كانت هذه النصوص قريبة جدا من السياسة والمجتمعات ، وعارفة بنزوع مراكز القرار التي تخطط لأهم التحولات التي يشهدها التاريخ، ولذلك أفلحت في إدراك الحقائق والأحداث المحتملة قبل حصولها بأعوام. هذه النصوص العارفة لا تؤسس على السفاسف العابرة بقدر ما تهتمّ بالجواهر التي قد تتواتر مرارا، بالنويات الثابتة إن نحن استعرنا مصطلح الشكلانيين الروس، مستثمرة في المسائل الاقتصادية والفكرية والفلسفية الضاغطة، في جينات الحدث، وذلك لتقديم صورة دقيقة عن المضمرات، عن الكامن في الأعماق القصية، وهي تفضح، بنوع من اليقين المبني على رؤية متقدمة، الحقيقة البشرية كما هي، بصرف النظر عن التجليات اللفظية، وعن العلامات المضللة التي تسم الخطاب المسوّق من القادة والمسؤولين عبر الوقت، ومن المثقفين المترهلين الذين يقيمون في الأوراق والحواسيب، أو يبنون على الكسل العقلي، دون يتوغلوا في مكوّنات الفعل، في مصادره ومآلاته الممكنة. ستأتي أوبئة أخرى لا محالة، طبيعية أو مصنعة في المخابر المتخصصة في إنتاج الحرب والجوع والخراب والموت، ومن وظائف الأدب والفن والإنسان أن يشنّ عليها حربا استباقية لإنقاذ القيم السامية التي تحافظ على كرامة الجنس البشري، وذلك أنفع من الأدب الإباحي الذي تقف وراءه مؤسسات فظة لا تعنيها سوى الأموال والكتابات السطحية. الأدب ليس ترويحا عن النفس، أو ناطقا رسميا باسم جهة ما، وليس ذيلا لأية جماعة ضاغطة ترغب في تكريس العبث واللاجدوى. إنه أرقى من هذه التصورات التبعية، وأكثر رقيا من هذه الضحالة التي يعيشها، مكتفيا بالتشريفات والأموال والجوائز.