شدني إلى "انقطاعات الموت"، في بداية الأمر، هذا الإهداء المميز من الأستاذ الفاضل نصر سامي، مقدم الرواية: "آمل أن يكون هذا العمل الرائع عزاء لصديقي في فقده المزمن للحياة... هذه التفاحة التي التهمتها فينا دودة الموت". كانت عتبة تشبهني كثيرا في هذه السياقات التاريخية العجيبة التي لا تفسير لها سوى العبث العارم الذي قادنا إلى السديم.. ثم جاء التقديم المبارك. وجدته عارفا جدا، غاية في الإثارة، شيئا من النباهة الصافية التي كانت مكملة للترجمة الراقية التي قام بها الأستاذ صالح علماني، بتفوق كبير وجب التنبيه إليه إكراما له على جهوده الاستثنائية التي يتحتم علينا التنويه بها دون توقف. كان في نبتي أن أقدم للقارئ رواية خوزيه دي سوزا ساراماغو(1922 2010)، وصاحب جائزة نوبل للآداب (1998)، بيد أني وقعت في حيص بيص، وفهمت لماذا وقف ضد هذا الكاتب النير كلّ من صندوق النقد الدولي والكنيسة الكاثوليكية والإتحاد الأوربي، وكثير من الساسة الذين رأوا أنه مناوئ لتوجهاتهم في الحياة، حياتهم كما يرونها خلف المكاتب المربكة ، كان حادّا في مواقفه منهم ومن كذبهم الرقراق، ليعيش منفيا، مفضلا الكتابة على الصمت، الإدانة على الامحاء في المنظورات السياسية التي لم يستسغها طوال حياته ، كإنسان وككاتب له منظوره للحياة والحقيقة. لقد كان صريحا جدا. لذلك عرجت على نقاط أخر قد تفيد في الكشف عن منطلقات الكاتب وفلسفته السردية التي انبنت على الإدانة المستمرة لبؤس العالم ومسؤوليه وساكنته. لخوزي دي سوزاساراماغو عدّة مواقف تجلت في تصريحات مثيرة، وعميقة، أو ما يشبه المآثر الخالدة التي قل ما نعثر عليها في مواقف الكتّاب والشعراء الذين اختاروا سبلا آمنة لا تجرح فراشة، لذلك ارتأيت ذكر نماذج منها لفهم طريقة تفكيره، أو كعتبة تضيء منحى الرواية، وكتاباته بشكل عام، ولو جزئيا. لقد قال بصراحة الرائي النبيل: " أيّ عالم هذا الذي يستطيع إرسال السفن الفضائية إلى المريخ ، بينما لا يفعل شيئا لوقف قتل الإنسان؟"، كما قال: "من الصعب أن يفكر الإنسان ويصفق في وقت واحد". وقال أيضا بعبقرية نادرة: "الوحيدون المهتمون بتغيير العالم هم المتشائمون، المتفائلون سعداء بما يملكون"، أو ما عبر عنه الشاعر الروسي يفجيني يافتوشنكو بقوله: "التفاؤل المورّد الخدين"، أي ذاك الذي عادة ما يتحول إلى مخدر يغرق الشعوب في الثقة العمياء، وفي البلادة الناصعة. ليس لنا أن نتفاءل كالحمقى في محيط من الضباع. تلك عينات تمثيلية عن بعض ما كان يراه، بعيدا عن المقولات الاملائية التي عادة ما تؤسس على الحفظ والمعاودة المستمرة لما يحتاج إلى مراجعات جذرية. وأمّا إستراتيجية انقطاعات الموت فشبيهة بخططه السردية السابقة التي عرفت في رواياته، قريبة نوعا ما من كتابات أنطوان تشيكوف(1860 1904)، كما يمكننا، بالعودة إلى المقارنة، أن نلاحظ نوعا من التماس الفلسفي بينها وبين ذئب البوادي لهرمان هيسه، كما يمكن أن نجد مجاورة بينها وبين كتابات الأديب التركي الساخرعزيز نسين(1915 1995)، إذ عادة ما أسس ساراماغو على ما يمكن أن يكون ثنائية ضدية مفارقة، غريبة، وممتعة في آن واحد بالنظر إلى عفويتها الظاهرية، وإلى الدمار الكبير الذي يمكن أن تحدثه في النفس بإيقاظها من الموت. هناك حضور لافت في الرواية لعناصر من نوع: المعرفة، الجهل\ الجدّ، الهزل \ الحكمة\ الغباء، وهي العناصر التي تسم طرحه ومنظوره السردي على حدّ سواء. لا بد أن نتذكر ها هنا رواية مزرعة الحيوان للكاتب الانجليزي جورج أورويل. إنه لشيء ممتع أن نكشف عن فظاعة الناس، عن خبث الساسة، عمّا يختبئ في الأعماق من حمق وتوحش، مع أننا نبدو، في أغلب الأحيان، طيبين وملائكة فوق العادة. يقول الأستاذ نصر سامي في التقديم الراقي للرواية: "لا أتذكر أنني قرأت كتابا مبهرا في عرضه، وعميقا في تناوله لجوهر الإنسان، بقوة هذا الكتاب. نص معرفي فلسفي شعري مصبوب بدراية العارف في قالب روائي يعرض سرديا عالما مهددا بدود الخوف والاستبداد والفساد والعمى في أقصى أشكاله". أجل: العمى الذي ينقل البشرية من مرض إلى آخر، بقناعة كبيرة، وبحب مرضي يتعذر شرحه في بعض السياقات التاريخية المريضة بكسل العقل. هذا صحيح إلى حد كبير، ويمكننا أن نضيف، عطفا على التقديم المضيء الذي ذهب إلى جوهر الرواية، أنه فعل ذلك بأريحية كبيرة، بهدوء لا يتكرر كثيرا في كتاباتنا الصاخبة التي لا تقول شيئا مهمّا، بسرد تفصيلي متفرج على المأساة البشرية برمتها، بعيدا جدا عن الذاتية، عن السرد المتوحش، وبأسلوب ساخر جدا، رغم جدية الرواية في بعدها الدلالي، هي "التي تكاد تكون ملحمة في مديح الموت"، في تمجيد قيمته القصوى، أو حديثا فلسفيا ممتعا عن وفاة الموت، وأهم التحولات التي ستطرأ بعد فقدانه، قبل أن يعيد القارئ، بمنطق مقنع، إلى أهمية وجود الموت في حياته لأنه حتمية منتجة للفعل والمعنى. نحيل في سياق المعنى إلى "الرواية المسرحية" لميخائيل بولجاكوف التي بنت على ضرورة تواجد الاختلافوالتضاد كعنصرين يدخلان في باب الحتمية الحياتية، أو إلى بعض ما قاله علماء اللسان في هذا الشأن: "المعنى يوجد في الاختلاف، وحيث لا يوجد اختلاف لا يوجد معنى"، كذلك موضوعة الموت في هذا العمل البارع الذي عالج المسألة من زاويتين متضادتين، وماهرتين: الهرب من الموت، وبالمقابل، الحنين إليه كضرورة لا يمكن تفاديها في هذا الوجود الذي قد يكون فيه الموت منقذا للبشر منالتعاسة الأبدية. وهناك، إضافة إلى هذه الموضوعة التي كانت محورا مركزيا، القالب الذي صبها فيه. لكننا لا نقصد ها هنا ما تعلق بالبناء والسرد ومستوياته والشخصيات والمسائل الفنية والجمالية، بل ما كان ذا علاقة بالجانب السياسي كإطار مضمِّن، حامل لحكاية الموت التي ستحرك السياسيين كلهم بشكل مضحك، ومخز في الوقت ذاته. لقد عمد الكاتب إلى الفضح، إلى رسمهم رسما كاريكاتوريا غاية في السخرية والعبقرية، كما يفعل العارف بما لا نعرفه، أو بما نعرفه ونتجنبه خوفا على حياتنا من دود الدنيا، وأيّ دود؟ سيجد المتلقي نفسه أمام مسرحية هزلية مكتملة العناصر، وسيستمتع بالجانب النقدي الذي أسس عليه الكاتب في قراءة الموقف السياسي من هذه الموضوعة التي ستحرك كلّ المسؤولين المعنيين بالتنظيم، وبالدفن، وبمحاولة إعادة التوازن إلى البلد. بيد أنّ المؤلف سعى، في جزء كبير من الرواية، إلى الكشف عن هذه الأعماق المتوحشة، عن الأرواح المظلمة، وعن سذاجة الحاكم المفترس، على شاكلة ما فعله هرمان هيسه ومحمد الماغوط وأحمد مطر في روائعه الساحرة، بنوع من المسخ الساخر، وعلى طريقة بابلو نيرودا أحيانا، وبأبّهة استثنائية في تحليل حقيقة الشخصيات، بعيدا عن التجليات الممكنة التي تقدمهم بوجه آخر، نظيف وجذاب في عالم لا يحتمل من شدة البؤسوالقذارات. من المهمّ، من منظوري، قراءة هذا الأثر الجميل لأنه مدهش في كليته، ذكي جدا، نبيه كفاية، وغاية في الثراء لوجود زاد معرفي وفلسفي كبيرينأسهما في ترقية المؤلف وتقويته، وفي السموّ به إلى درجة تكاد تكون مثالية، وساحرة جدا بالنظر إلى مستوى الذكاء المميز للنص. انقطاعات الموت ليست رواية فحسب، إنها تحفة أدبية نادرة جدا في تاريخنا السردي المعاصر، شيء من المهارة السردية والمعرفية العميقة، وشيء من السياسة المضادة للظاهر المتواتر، للزيف العام الذي يتحكم في الكون. لذلك عاش الكاتب خوزي ساراماغو منبوذا من عدة سياسيين وهيئات عالمية كانت تراه عدوا، كاتبا مناوئا لها، ورجلا شرّيرا في كتاباته التي لا تداهن. لقد كان يعرف طرائق الكشف عن حقيقتها العميقة، عمّا يمكن أن تخفيه الكلمات والجمل التي بربطة عنق ونظارات شمسية. لقد كان يدرك ما في الأعماق، كما أنبياء الكلمة النادرة. الساسة الكبار في هذا العالم المقيت يقفون مع الكتّاب الطيبين جدا، أولئك الذين يكتبون نصوصهم المراهقة بأحمر الشفاه والكعب العالية، ومع الشعراء الحساسين، المكتفين بالغزل العذري في سياقات تاريخية مدمّرة، وأمّا الكتّاب الذين لا يداهنون أحدا فلا مكانة لهم في كون لا يناسب شخصيتهمومروءتهم. كذلك عاش خوزي ساراماغو، متمردا على الأنظمة، فوقها وفوق سفاسفها. لقد كان كبيرا جدا، وكذلك رحل إلى هناك، كقوس قزح، دون أن يفكر في العودة إلى عالم أصغر منه قيمة ورجولة. لقد كان يكتب مثل هنري ميللر، من أعلى جبل الأولمب، بحيث يرى كلّ شيء: الفاضل والحقير، الخيّر والشرير، والكبار والسطحيين، ولا أحد يراه في عليائه لأنه لا يُرى سوى بالروح، وبالحاسة التاسعة التي لا يملكها سوى القديسين. لم يخطئ الكاتب الأمريكي اللعين هنري ميللر عندما قال قبل عقود: "العالم للصغار والسطحيين، وأما البشر بالمعنى الحقيقي فليس لهم سوى الموت".هكذا كان ساراماغو: إنسانا حقيقيا لم تغوه الألقاب والأموال والجوائز ودنس الساسة والجماعات الضاغطة. لقد كان صادقا ونظيفا جدا، لذلك عاداه صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والكنيسة الكاثوليكية...وكثير من الكتّاب الذين حسدوه على كبريائه، وعلى شجاعته وذكائه لأنهم لم يكونوا مؤهلين لتمثيل أنفسهم.