شَهد العالم الإسلامي تعطيل صلاة الجُمعة الفريضة وصلاة التراويح النّافلة ،ومن الممكن أيضا الحجّ هذه السنة-، وغلْق الحرمين الشّريفين، وصاحَب ذلك فتاوى جماعية وفردية وخلاف في مسائل بين شيوخ الدّين، وأعاد بعضهم التذكير أنّ الفتوى تخضع لأقوال الأطباء أهل الاختصاص، وطاعة أولي الأمر التي كانت تبريراً سياسياً أصبحت ذات معنى انضباطي إداري في تطبيق قانون الحجر المنزلي وعدم خرْق حضر التجول. واقع ذلك وتفاعل الفتوى مع نازلة الجائحة يطرح التّحدّي التالي : كيف نفهم "التديّن الجماعي" و"التديّن الفردي"؟ ، ولماذا غلب على علاقتنا بربّنا سلوك وذهنية أنها لا تتم الاّ ب"التديّن الجماعي" ؟، هل ذلك يعود إلى منظومة مذهبية فقهية أعطت للشّعيرة الجماعية الأفضلية مثل الحنابلة في صلاة الجماعة الخماسية، أم يعود إلى طبيعة المجتمعات وثقافاتها السّابقة عن الإسلام؟ ... تِلكم أسئلة لا تخضع لقواميس جاهزة أو رؤية محكومة بمنهجيّة معينة أو بحالات نفسية تجاه الدّين تأخذ طابعا معرفيا يتوهم صاحبه من المؤمنين أو الملحدين أو الحداثيين أنه يقدّم معرفة أو اجتهاداً ، وهو في الحقيقة يعبّر عن (حالة عاطفية) قد تصل ببعضهم إلى (ظاهرة مرضية)، ولكم في واقعنا من الذين يكتبون ويفكرون أمثلة كثيرة ،ومن الفئة الثالثة صاحب تخصص (أنثروبولوجيا القرآن) التونسي. السّلوك التّعبدي والأخلاقي الواقع التاريخي الذي نعلمه جميعا أن العبادات (الشعائر) في أساسها فردي لأنها مبنيّة على الإيمان (التّوحيد) الذي يُبنى على العلم عند علمائنا، وجلّ كتب التوحيد تبدأ بباب العلم، ويكون السّلوك التّعبدي والأخلاقي نتيجة ما وقَر في القلب، وقبل نزول الوحي بالنسبة للأنبياء أو الإذن بالنسبة للأولياء تكون (الخُلْوَة) التي هي مجاهدة ومشاهدة فرديّة، وقد كانت البروتستانتية في نسختها اللوثرية -التقويّة عودة للفردية في العصر الأنواري الغربي ، ومهّدت للبحوث العلمية والإصلاحات الدستورية والسياسية، أما نحن فقد كان التصوف في أصله منحى فرديا في العلاقة مع الله ومحاربة ل(التديّن الرّيائي) ،وقد عبّرت عن ذلك مناجاة رابعة العدوية في كونها تعبد الله لأنه يستحقّ أن يعبد وليس بثمن الجنة أو الخوف من النار، وتحدّث الإمام الغزالي عن (ربْع مهلكات) التديّن الذي يضرّ به (سوء العلاقة مع الآخر) من حسد وكراهية وضغينة والحِيل والكذب.. هذا التديّن الفردي هو الإخلاص حتى ولو تؤدي شعائرك مع الآخرين فإن شرط الصّحة (النيّة) ، وهي مسالة سرية قلبية، لكن طبيعة المجتمعات والتحولات والثقافات والعادات هي التي تنقلنا من "التديّن الفردي" إلى الجماعي بمعنى أن نهتم بالآخرين ومواقفهم منّا ويكون التركيز على الشّكل والمظهر، مثل ما حدث مع التصوّف حين تحوّل إلى زوايا ، وهنا مؤسسة كانت بديلا عن انهيار السلطة المركزية بعد القرن الثاني عشر ميلادي (دويلات شمال إفريقيا)، وانهيار القدرات الاقتصادية وضرورة المُرابطة للدفاع عن سواحلنا من الاحتلال الأجنبي. التّجمع البشري الروحاني الاجتماعي الخيري القصد هنا هو أنّ العلاقة مع الله نحتاج فيها للآخر كأنْسٍ واطمئنان وهي حالة اجتماعية وظلّت وستظل صلاة الجُمعة هي التّجمع البشري الروحاني الاجتماعي الخيري الذي كان في الأزمات السياسية تعبيرا عن موقف اجتماعي وديني وسياسي مثل الدعوة إلى تعطيلها زمن الفاطميين العبيدية بالقيروان وشرق الجزائر (القرن الرابع الهجري) ، لأنّها كانت رمزية هيمنة مذهبية ويتم فيها سبّ الصحابة . وقد دعا إلى ذلك التعطيل مجموعة من فقهاء المالكية منهم صاحب الرسالة أبوزيد القيرواني، أو الإباضية التي كانت ترى سقوط فرضيتها إلى حين مرحلة التّمكين ويكون الإمام (الرئيس) منهم، وهذا رأي تخلّى عنه اليوم بعض فقهائهم. هل يمكن أن نرى تعطيل (التديّن الجماعي) في زمن الأوبئة عودة إلى (التديّن الفردي) الذي هو الأساس؟ ، وأن المظهرية الشّكلية في ادعاء التديّن نبذها الدّين وأن الجوهر هو الإخلاص والعمل الصالح؟ ، فمن مُبطلات الصّدقات والعبادات رياء الناس؟ ، وعلى من يَدعو إلى التّجديد ادّعاءً فَهْم الدّين في نصوصه وتاريخه وتحليل مجتمعاته فذلك مدخلٌ معرفي ضروري لتجاوز أحكام جاهزة أو ترديد أقوال غيره، وأن لا يكونوا مثل الذين يختلفون عنهم ويُسمّونهم لَمْزاً تقليديين أو ظَلاميين ؟ ..