قرأت في السنوات الماضية مقالا لافتا للأستاذ محمد عباس عنوانه "جمهورية الزوايا"، تناول فيه التأثير المتنامي للزوايا كسلطة لها تأثيرها على الحياة السياسية والاجتماعية، حتى يخيّل للمرء أن الزوايا تحوّلت إلى مؤسسات مجتمع مدني.. بماذا يمكن أن نفسر هذا الاهتمام في السنوات الأخيرة بالزوايا وبالتصوف، هل هو الحاجة الوجودية للتديّن والصفاء الروحي والتخفّف من ضغوط الحياة وأعبائها في ظل ما يعيشه العالم من خواء روحي.. أم يعود هذا الاهتمام إلى صعود الحركات الأصولية المتطرفة وما صاحبها من أفكار خلخلت استقرار العالم وأقضّت مضاجع الأنظمة السياسية، التي يبدو أنها اهتدت إلى فكرة التمكين للتصوّف بما يتسم به من اعتدال وتسامح من أجل الحدّ من تأثيرات الأصوليات المتطرفة والإسلام السياسي.. قد يكون مصطلح التصوف السياسي مجانبا للحقيقة بعض الشيء، ولكنني أفعل ذلك عن وعي، وفي ذهني مصطلح "الإسلام السياسي" المتداول، نظرا لما بينهما من تقارب، ذلك أنهما ينتميان إلى حقل إسلامي وحضاري واحد. وإذا جاز لنا أن نقول بالإسلام السياسي يمكننا كذلك القول بالتصوف السياسي. إنني أقصد بالتصوف السياسي تجاوزا ذلك الرهان الغير معلن من قبل السلطة على مؤسسة التصوف في تمرير مشاريعها وتبرير ما تقوم به، ومنحه شرعية ذات طبيعة دينية، ومن ثَم تحقيق قدر من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، لاسيما في المناطق التي مازال يسود فيها الفكر الغيبي والديني. بالنظر إلى أن التصوف طريقة في الحياة قوامها الزهد والتقشف في الحياة، إذ يرى أن حطام الدنيا هو مصدر الشر والشقاء، وذلك يقتضي من المتصوف احتقار المادة والعزوف عن الدنيا والانقطاع للتأمل والعكوف على العزلة والخلوة والجوع! وإذا عدنا إلى التنقيب في جذور التصوف فمن الواضح أن نزعة الزهد والتصوف في جانبه العملي، التي تبلورت و بدأت البروز خلال القرن السابع، قد جاءت كردّة فعل على أمرين أولهما الفساد الناتج عن توسع الفتوحات الإسلامية وكثرة الخراج والترف والبذخ الذي أدى إلى ارتكاب المحرّمات والفساد، وثانيهما الصراع على السلطة ومن هو أحق بالخلافة. وبالجملة فقد كان محصّلة أدى إليها الفساد الاجتماعي والصراع السياسي، وقد عبر عن نفسه بترفع وانسحاب من هذا وذاك.. لقد شهد التاريخ الإسلامي صراعا بين الفقيه والصوفي وبين أنصار الشريعة وأنصار الحقيقة من المتصوفة وأتباعهم، وغالبا ما كان هذا الصراع يحسم لصالح الفقيه بدليل معاناة وتضحيات المتصوفة من أمثال الحلاج والسهر وردي، بفعل سوء الفهم والتواطؤ بين الفقيه السلطة الحاكمة. يمثل تقي الدين بن تيمية في عصره المناؤئ الأكبر للتصوّف، والمنافح الأول عن الشريعة، والرافض لكل البدع والأفكار ومنها التصوف، والذي يعتبر الكثير أن مواقفه وخطابه الأصولي المتشدّد هو الذي تتبناه كثير من الحركات والتيارات الأصولية المتشددة اليوم.. إنني لا أجد تفسيرا لهذا الانخراط من قبل ممثلي التصوف والصوفية بطرقها وزواياها ومريديها في الحراك الاجتماعي والسياسي في بلادنا، وفي غيرها من البلدان، إلا أنه سلوك واع واستراتيجية مدروسة تهدف أول ما تهدف إلى المساهمة في التغيير والتأثير وتوجيه السياسات. وإذا لم يكن الأمر كذلك، ولم يكن هذا الانخراط مظهرا من مظاهر "التصوف السياسي" فإن الفرضية الوحيدة المتبقية أمامنا، هي أن التصوف قد عرف تحولا خطيرا في مفهومه وفي وظيفته التي أملتها السياقات الجديدة والمستجدات الطارئة التي يشهدها العالم، حيث لم تعد الممارسة الصوفية انسحابا من الحياة وانكفاء على الذات .بل صارت تشكل قوة كبيرة في تشكيل الشأن العام، بالنظر إليها كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة. إن التصوف الذي طالما اعتُبر فعلا هامشيا، مشوبا باللاعقلانية والخرافة، وأظهره الإستشراق باعتباره حركات باطنية شبه سرية محدودة التأثير، أصبح في السنوات الأخيرة محل الاهتمام للكثير من الدوائر والأنظمة.. بل وتحوّل إلى مؤسسة ضاغطة لها أملاءاتها على الأنظمة السياسية الرسمية بفعل انحسار دور المجتمع المدني، وبفعل الدور المنتظر منه ككابح لانتشار الأفكار الدينية المتشددة. هذا التسييس للتصوف لم يعد أمرا خافيا، ولم تعد ظاهرة التصوف السياسي بحاجة إلى مقاربة أنتربولوجية تقليدية، بل صار ظاهرة تحتاج إلى تأمل عميق وفحص معرفي شامل.. أحمد عبدالكريم