عندما نشر كلام الأخ محمد علي فركوس على موقعه، المتعلق بالأشاعرة والماتردية والمتصوفة وغيرهم…، وتلقفته وسائل الإعلام، ورد عليه الرادون وعلق عليه المعلقون، وتفاعل معه المتفاعلون، وانفعل معه المنفعلون، كان رأيي في الموضوع ألا يدخل معه أحد في نقاش أو حوار أو جدل؛ لأن الموضوع من ناحية ليس موضوع جرائد ومواقع وأحاديث الناس في المقاهي، ومن ناحية ثانية موضوع مستهلك ولا جديد فيه إلا الإثارة الإعلامية "في التكفير والتبديع"، ولا جديد للأخ فركوس في الموضوع، إلا كبعث موضوع قديم بألفاظ جديدة أو قديمة. وكنت أتمنى أن يتجه النقاش إلى من وراء بعث مثل هذه المواضيع؟ لأن إرادة تمزيق الأمة واقعا يقينيا، تستعمل فيه جميع أدوات التمزيق والتشتيت السياسية منها والثقافية والدينية، وتستدعى فيها جميع الأساليب من الأسماء والمسميات القديمة منها والجديدة، بدليل أن هذه الفئات نفسها التي نفى عنها الأخ فركوس الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، نظمت مؤتمرا في غروزني في شهر أوت سنة 2016 لتقرر أن أهل السنة والجماعة هم "الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علمًا وأخلاقًا وتزكيةً". وإذا كان المؤتمر المنعقد في غروزني له غاياته السياسية، برعاية من الروس الذين لا يهمهم مصير السنة ولا الشيعة ولا السلفية ولا الأشاعرة، فإنني لا أشك في أن الشيطان الذي أوحى بتنظيم مؤتمر من أجل التعريف بمصطلح أهل السنة والجماعة ومعتقداتهم، هو نفس الشيطان الذي من وراء تصريحات الأخ فركوس وغيره ممن تبنوا آراءه في الموضوع. وأنا لا أشك في وفاء الأخ فركوس لطريقته في التعامل مع النصوص وحركة التاريخ، لا يجوز لي أن اُشكك في صدقه مع نفسه في تدينه، فهو على مذهب معروف في التاريخ الإسلامي، بتغليب الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات، وهو أقرب إلى مذهبي الظاهرية والحنابلة في فروعهم، ولكن وفاءه وصدقه لا يعصمانه من أن يكون معولا بيد الخصوم الحقيقيين للإسلام والمسلمين، قد يأتيه من يسأله فيجيبه بحسن نية…، فيتسبب في كوارث لم يقدرها حق قدرها، ولكني أعيب عليه أنه لم يتساءل يوما في مسؤولية على ما ينبني على فتاويه من تمزق واضطراب في المجتمع الجزائري الذي تقاسمته الأهواء في خارج ساحات التدين.. لا شك انه يفعل ذلك خوفا من الله وصدقا في التدين، ولكنه يغفل عن أن طبيعة التدين لها وجهان: وجه متعلق بحقوق الله على العباد، ووجه متعلق بحقوق العباد على العباد، "وحقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة" كما يقول الفقهاء، وبعبارة أخرى إذا كان الأخ فركوس يهتم في تصنيفه للناس وفضح معتقدات المبتدعة منهم في مسائل اجتهادية خوفا من الله حتى لا يسأله لماذا لم تُبدِّع؟ ولماذا لم تُكفِّر؟ فماذا يقول لله عندما يسأله لماذا تسببت في تمزيق الأمة الواحدة؟ ولماذا أوقعت بين الأب وبنيه؟ ولماذا تسببت في تفريق الناس، بتسفيه رأي مخالف حول مسائل خلافية تتسع لها القلوب والصدور وتسعها النفوس العالية؟ إن مجرد الدخول في مناقشة الموضوع مع الأخ فركوس في تقديري، دخول في سرداب أظلم لا تعلم نهاياته إلا بمظاهر تبدو انتصارا لهذا الجانب أو لذاك. ولتجاوز الموضوع وتفويت الفرصة على إرادة أهل الشر من الذين لا يريدون للأمة الخير، لا يكونا إلا بالعودة إلى أصول هذا الدين ومنهجه الكلي الثابت، وليس بإثارة الخلافات؛ لأن المسائل الخلافية لم يخل منها عصر ابتداء من مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، وستبقى إلى أن تقوم الساعة، أما المنهج والثوابت الكلية فغير قابلة للزعزعة والتغير والتبدل. وعندما أقول لا اهتم بما قال الأخ فركوس، لا أقصد الاستهانة به أو بقوله من حيث هو علم يريد نشره على الناس، وإنما لأن ما يحرص على نشره لا يراعي فيه جملة من الشروط الموضوعية الخاصة بغايات رسالة الإسلام الكبرى والدعوة إليه وهي من أخلاق العلماء، وهذه الشروط يمكن إيجازها فيما يلي: 1. الجانب المنهجي: فالأخ فركوس من مدرسة تُغَلِّب الفروع على الأصول وقد أطلقت على هذه المدرسة في مقال سابق مصطلح "السلفية الطائفية"، إذ كل من يحاكم الأصول للفروع طائفي كائن من كان [أنظر المقال في موقع الشروق أونلاين: السلفية الطائفيةhttps://www.echoroukonline.com/، ولذلك نجد كل من نحى هذا المنحى، يفقد الكثير من أساسيات الأخلاق الإسلامية، بهجر الناس ومعاداتهم، باعتبارهم مبتدعة أو كفرة أو اهل أهواء، وتصنيفهم انطلاقا من القناعات الذاتية، والاعتقاد بالقرب من الله لمجرد الحرص على تطبيق القناعات الفردية…، باعتبارهم الأفضل والأرقى..، فلا مراعاة لترتيب الأولويات، ولا اهتمام بانعكاسات ما يترتب على الفعل المراد تطبيقه؛ لأن الهم كل الهم هو كيف تقام الفضيلة المفترضة؟ وكيف تطبق السنة أو الفرض؟ من غير مراعاة لأي شيء آخر، ولو خالف المخالف وعاتب المعاتب، وذلك ما وقع بالفعل مع الخوارج والشيعة وغيرهم من الفرق التي شذت عن وسطية الإسلام وعدله، بسبب تركيزهم على ميزات لم تعرف عند غيرهم واعتمادها حكما على ما هو أولى منها من الأقوال والأفعال. إن الاهتمام بالجزئيات ليس عيبا؛ بل هو مطلوب، ولكن بشرط أن يكون وفق منهجية تضعه في مكانه، لا أعلى منه ولا أدنى، بحيث لا يكون على حساب الأولى من الأقوال الأفعال ولا مانع أن تكون القناعات الفردية على غير المعهود في إطار السواد الأعظم، كما كان الحال مع بعض الصحابة، مثل أبو الدرداء وأبو ذر وأبو هريرة وغيرهم، فقد عرف عن هؤلاء الزهد والحاجة بحيث بلغ بأبي الدرداء رضي الله عنه أن زوجته تأذت من سلوكه، الذي لم يقصد به إلا التعبد، فقالت لسلمان الفارسي رضي الله عنهما: "إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له في النساء"، ومع ذلك لم ينكر عليه ولا على غيره ما دامت الأمور في إطار القناعات والاجتهادات الفردية، ولكن عندما أراد البعض تحويل هذه الأمور الفردية إلى قناعات جماعية، كما فعل ذلك النفر الذين سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقالوها –اعتبروها قليلة-، وقرر كل واحد منهم أن يفعل ما لا يفعل الناس عادة، فقال أحدهم أنا أصوم ولا أفطر وقال الآخر أنا لا أتزوج وقال الثالث أنا أقوم الليل ولا أنام…، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أنكر ذلك بشدة وقال "من رغب عن سنتي فليس مني"، وإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لمجرد أن ذلك خيارات فردية وإنما لأنه تبني جماعي، وذلك يؤثر على المنهج، ولو أقرهم لتأثر سلوك المجتمع برمته ولتضعضع؛ لأن هذا السلوك المعلن عنه جماعيا مخالف لطبيعة النظام الإجتماعي. ولو أن كل واحد من أولئك النفر ذلك السلوك من غير أن يعلنه مبدأ لما أنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاعتبره اجتهادا فرديا وتذوقا خاصا للعبادة. 2. المسائل العلمية موضوع الخاصة: على اعتبار أن العامة مقلدة للعلماء وطلبة العلم، وليس مطلوبا منها معرفة تلك المسائل، بحيث يكفي المؤمن أن يلقن المسائل النظرية كمحفوظات إعتقادية وكفى، أما الجانب العملي فيكفيه تعلم ما يقيم به عبادته، فلا يطالب بأن يصنف أنه أشعري أو ماتريدي أو إباضي أو مالكي أو صوفي أو قل ما شئت من الأوصاف…، إنما المطلوب منه أن يقيم ما أمره به العلماء، ولذلك قيل أن العامي لا يوصف بالتمذهب لأنه مقلد، أما عدا ذلك من المسائل فهي من شأن الخاصة من أهل الذكر، فلا يليق نشرها بين العامة وإلا تحولت إلى فتنة للذين آمنوا والذين كفروا على حد سواء، ومخابر صناعة الفتن تعلم هذا علم اليقين وتعمل بعكسه. لقد منع العلماء قديما الكلام عن الأمور الخلافية في المجالس العامة، كما منعوا الكلام في المسائل العلمية المعقدة التي لا تليق بالجمهور؛ لأن جماهير الناس ليسوا على مستوى واحد في القدرة على التلقي والفهم، كالكلام في الصفات وفي أوجه الاستدلال في تفسير النصوص وسرد الأسانيد والترجيح بين الروايات، كل ذلك لا يليق بالجمهور، وربما كان لبعضه فتنة لهم. 3. احترام الأتباع: سواء كان الأتباع من هذا الطرف أو ذاك؛ لأنهم هم المستهدفون دائما، من جميع الجهات المستقيمة والمعوجة، والمشبوهة أيضا من التي تريد تمزيق هؤلاء الأتباع إلى فئات يلعن بعضها بعضا ويفسق ويبدع بعضها بعضا ويكفر بعضها بعضا. والأتباع الذين هم من العامة على العموم لا يليق إقحامهم في قضايا فوق طاقتهم كما أسلفنا؛ بل المطلوب المحافظة عليهم وعلى توجيههم إلى التعلق بالثوابت التي لا جدال فيها، وحثهم على الاجتهاد فيما يقربهم إلى الله ويقوي العلاقات فيما بينهم، لما بين القرب من الله ووحدة الأمة من أهمية، وإذا كان التوحيد هو رأسمال التدين الصحيح فإن وحدة الأمة على المستوى الاجتماعي هي رأس الأمر كله في الدنيا. ذلك أن الجمع بين إرادة التقرب إلى الله والحفاظ على وحدة المجتمع أولى من كل شيء؛ بل لا يجوز العمل على الاختيار بينهما، لا سيما عندما يكون الطريق المراد به التقرب إلى الله مسألة خلافية إلى جانب يقينية الحفاظ على وحدة الأمة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، وما أظن الربط بين وحدة الأمة والعبادة والتقوى في هاتين الآيتين في كتاب الله عبثا. وهذا الكلام يوجه إلى الأخ محمد علي فركوس بنفس القدر والمستوى يوجه إلى خصومه ومهاجميه؛ لأن الرجل له أتباع قلدوه واقتدوا به واقتنعوا بطروحاته حبا في الله وفي الرسول وتتبعا لمداخل التدين الصحيح، متى شعروا بوجود من هو أولى منه أفقه واتقى انفضوا من حوله، وكذلك مع غيره من الناس، قد يتبعوهم ويقتدون بهم وعندما يكتشفوا من هو أولى منهم تحولوا إليه. إن الأمة تبحث عمن يهديها إلى صراط الله المستقيم، ولا تبحث عمن يستدرجها إلى تكثير سواده وتسفيه خصومه؛ بل إن الجماهير تمتلك من الفطرة ما يكشف لها عن الجهلة وأنصاف المتعلمين والمدسوسين في صفوف الأمة.