حينما تقرأ قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: ( أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكّر وإن ضلّ، لأنّه سيعود إلى الحق، ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى، لأنّه سيكون كالقشة في مهب الريح). تتكشف أمامك مساحات من الواقع الثقافي والمعرفي العربي والإسلامي المعيش ، وكأنه يضع بين يديك نموذجين من الناس لا ثالث لهما، الأول يُفكِّر، والثاني لا يُفكر وإنَّما يتَّبع ويُقلِّد، فالذي يفكِّر يضع نفسه أبد الدهر في المواجهة مع الأفكار، والأشياء، والمواقف، ويخرج منها باختيار، مهما كان ذلك الاختيار صائبا أو خاطئا. بيد أن الذي لا يفكِّر فهو ذاك الذي رهن العقل والقلب، ووضعهما في يد غيره، وشعر بطمأنينة الأمان في اتباعه وتقليده، وشرب من كأس غيره. وحينما نرجع إلى كتاب الله عز وجل، لنسأله عن حقيقة الفكر والتَّفكر، نجد أن كلمة "يتفكرون" قد وردت في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة، كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ( آل عمران -191) وأن نهاك فرق بَيِّنٌ بين كلمتي "فكَّر" و "تفكَّر" ، ولماذا اختار الله عز وجل الثانية بدل الأولى التي لم يذكرها إلا في موضع واحد فقط هو قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّر ﴾ (18 المدثر ). ذكر أهل الفروق في اللغة لطائف دلالية في هذا الباب، حينما قالوا: إن "التفكّر" يكون في ملكوت الله، لكن التَّفكير يكون في كلِّ شيء، والتَّفكُّر عملية وجدانية في جوهرها، بينما التفكير طريق عقلي في أساليبه وأسبابه. فالجانب الوجداني في عمليات التفكُّر هو الذي يُكسبها بُعدَها التدبُّري الذي سينتهي بإقرار حق، أو تثبيت حقيقة، ومن ثم كانت دعوة الله الناسَ أن ينظروا في خلق السماوات والأرض ليصلوا إلى خالقها ومبدعها فرادى وجماعات، بما يمدُّه الوجدان من مدد إلى العقل ليعقل ويستيقن. ومن رهن عقلَه وحبس قلبَه، فقد حرَم نفسه من هذا القرب الذي دعته إليه ثمانية عشرة آية من آيات كتاب الله.