عندما يسحر الصنوبر أعين الناظرين يبتهجون.. لكنه عندما يسحر سليقة الكتاب يبدعون، فيشرق عليهم وحي الكتابة.. يرتجفون.. ولا تزملهم إلا الحروف ولاتدفئهم إلا الكلمات المعبقة برائحة الشجرة المباركة. وعن "فتاة الصنوبر" كتبت أمل عبد الله قصتها، وصدرت للدكتور مهدي صلاح الجويدي رواية "وديعة الصنوبر"،وللشاعرة والروائية ربيعة جلطي رواية "نادي الصنوبر"، وللروائية الألمانية ماريون بوشمان "جزر الصنوبر". أما "قصر الصنوبر"، فهو أول عمل روائي للشاعرة والقاصة والروائية المتألقة "إلهام بورابة".. التي جمعت بين روح الشعر وقوة السرد وعذوبة اللحن، وهي تستحضر الأنا المعذبة في أغنية لا تزال ترددها الألسن: يا عيني نوحي.. يا خلاخل رني يا قسمطينة بعيدة.. لعرب شغالة.. يا.. قولو لغريب يروح آآآ يا لوكان نشكي للنجوم.. يغيبو.. رني يا خلاخل.. ومع رنة الخلاخل تستيقظ الآهات لتروي قصة الحنين الأبدي للوطن. والرواية - كما قالت "إلهام"- كانت في الأصل مذكرة بحث في علم النفس حول الواقع الاجتماعي للمسعفات بقصر الصنوبر، وهو الاسم الذي أطلق على دار رعايتهن " هي قصة الأرض وقصة الهوية وقصة الفن وقصة يتيمات لا يتفطن المجتمع السؤال عن حالهن وهو يخوض بهن في تجارته السياسية، فجاءت هذه الرواية لمواساتهن وإعادة الاعتبار لهن.. "وفي عنوان جزئي كتبت الروائية عن قصر الصنوبر ، وفي الصفحة 22 قالت: : الأدغال التي تتوسدها الشمس للقيلولة.. وصمت الطين الذي نفخ في أصابع سوفانا سره. البجعة الغريبة وضوضاء تضج عند الباب" . وفي الصفحة 70 " هو قصر.. لأنه يشغل مساحة واسعة.. ويشغل الفضاء ببنائه المتوغل في فراغات عمالقة الأشجار.. قصر ببهائه وبهيبته رغم التعرية التي خدشت طلاءه.. وجعلت بالجدران ندوبا من الكآبة"، وبعيدا عن المكان الواقعي تطير بنا الكاتبة نحو المكان الخيالي الذي جعلته خلفية وهي ترسم روايتها بالكلمات.. وتلونها بالمعاني.. إنه المكان الذي عاشت فيه الشخصيات وتحركت فيه الأحداث في كل معقد مركب يعكس جمال الرواية." كلنا أيتام في الواقع " من البداية يشي النزف باغتراب موجع.. ويكشف عن هشاشة المشاعر المكبوتة التي قدر لها أن تنام في الركن المنسي من النفوس المعذبة.. إنه يتم أقسى من الاحتياج إلى الأم والأب البيولوجيين.. إنه حنين للأرض المقدسة التي تدنست بأقدام الغرباء. تسقط الكاتبة ذاتها على شخصية "نور" بطلة الرواية، وإليها توكل مهمة سرد الأحداث، إلا أن "فضيلة" زميلتها هي التي تحرك الأحداث من خلال أسئلتها. ويبدو أن سؤال الهوية يشكل الاتجاه الخطي الذي تسير فيه الرواية من بدايتها إلى نهايتها ، إنها الهوية الممزقة بين الإسلام دين الجزائريين والمسيحية التي يسعى المستدمر الفرنسي إلى بثها في نفوس المستضعفين.. بين الإرهاب الدموي الذي تفشى فيروسا فتاكا وبين التهجير الجبري للنزيلات إلى الدول الأوروبية. وعلى حافة المفارقة تقف الروائية لتميط اللثام عن "فلة" الهاربة من التهجير إلى الإسلام.. والتي تجد لها مكانا في عائلة "نور".. وعن "فاطمة" المسماة "الروسية" المسيحية التي تحمل داخلها بذور الوفاء للإسلام.. وهي المرأة المسكونة بالفن والانتماء إلى هوية عنوانها الأرض " أنا فاطمة عرضت عليكم من مذكرات عيشة/سوفانا ما يومئ للغربة أن تنطفئ". ..أنا تانيا أيضا.. كنا التقينا بروسيا، وصرت أعرف لماذا لم تسألني عيشة عن اسمي الحقيقي وجذوري. كنت ،"جزائرية" أكفيها هوية لتتنسم رائحة الوطن" . الرواية رواية عن "هن" ولكنها في جوهرها رواية عن "فاطمة" التي تعكس الهوية المعلقة للنزيلات اللواتي رمى بهن القدر في قصر الصنوبر " ، فاطمة التي تمسكت بشريعة ماري قد تكون من المكبرين الآن حول بيت الله الحرام " تستحضر الكاتبة التاريخ.. وتحفر في الأعماق بحثا عن جذور الهوية.. وفي سياق البحث الأركيولوجي تكشف عن مستويات الاستدمار وأبعاده، فالأتراك كما تقول الجدة:« لم يكتفوا بتسليم البلاد لفرنسا لكنهم عاثوا بالنسب... ومع حرصهم على إنشاء أبناىهم على الإسلام، فقد تمكنت الأمهات من أن تنفث روح المسيحية في خلجات الروح». و تستقرئ "إلهام"الأحداث وتستنطقها من خلال عام النار وحرائقه التي أتت على ما تبقى من حياة المواطنين في "الروفاك".. وبين استعمار ثقافي وسياسي وديني تناقش التواجد التركي والفرنسي وأبعاده الواضحة والمضمرة. كما تطرقت إلى الثورات الناعمة التي أسقطت النظم الشيوعية ومنها ثورة الزهور بجيورجيا، وهذا في سياق حديثها عن تهجير النزيلات.وبروح شعرية تستحضر الأغنية الشعبية مؤرخة دامعة يرددها أبناء الجيل الجديد دون أن يفهم مغزاها.. ماغاضوني غير زوج بنات.. الي تفرقوا.. الي تفرقوا.. في طريق دزاير يتباكو.. يتباكو.. وبعين ناقدة تعري الروائية المجتمع وتكشف عن خباياه. عن "دوجة" أرملة الشهيد.. التي حملت ابنتها وقصدت المدينة بحثا عن عمل «لتجد نفسها قد أوكلت إلى "كبيدة" لتشغلها بالدار الكبيرة( الماخور).."كبيدة" التي كانت تدير الدار والتي كانت تتاجر بالأجساد الطرية الحالمة، لها حفيدتان كاملتان. » ثم تتساءل الكاتبة بتهكم: لا أفهم كيف يربى الشرف في بيت أقيم من أموال محصودة من لحم المغبونات؟ ، المغبونات اللواتي قالت الكاتبة على ألسنتهن في الصفحة83: " إلى الله أتضرع.. سأحمل خطيئتي فوق الغيوم.. وعلى مهلها تمتلئ بالعادات الحسنة.." وأختم هذه القراءة بالرؤية الجمالية التي تحملها الرواية، فالبداية كانت مع راقصة الباليه تقول عنها: «تفاجئني غربة الألوان.. فأزرع بدل عيني عتمة.. أمسخ الأشكال التي رافقت رحلتها من عدم المعنى إلى الروح ثم أمزج رحيقها حتى يمتزج بدمي.. بجعة تربتي هنا. وروحي هناك..» إنها رقصة الباليه التي قدمتها الباليرينات تخليدا لذكرى عيشة سهام الجزائرية. ويتجلى البعد الجمالي للفن في الصفحة 58 في جملة تنبض عمقا وجمالا «الفن أجمل ضمادة للجروح». الفن أرقى أشكال التعبير الإنساني الذي يعكس حقيقة الإبداع.. ومن منظور "سيغموند فرويد" يعتبر التسامي آلية من آليات النفس لحل الصراع الدائم بين الأنا الأعلى والهو.. بين ما نريده ونرغب فيه وبين السلطة الدينية والاجتماعية و الأخلاقية التي تقمع ذلك.. الفن تجل للمشاعر المكبوتة والذكريات المنسية التي تختبئ لتعود. وقد أجادت الكاتبة بحكم تكوينها الأكاديمي الغوص في أغوار شخصيات الرواية وهذا منحها بعدا نفسيا يعكس عمق الرؤية ودقة الوصف ومحايثة التفاصيل...الرواية اختزال لمعاناة الإنسان الذي تجلده سياط الاغتراب، فتعبث بانتمائه إلى أرضه وعرضه.. وأسمع في هذه الأبيات أصوات النزيلات التي باركهن الراعي الصالح تردد مع "مجاهد عبد المنعم مجاهد" : حلفتك إن أنت مررت على الورد الأحمر لا تقطفه وخليه حرك حزن القلب عليه أبكيه جرح الزهر الأبيض لما يجرح يظهر فيه لكن جرح الورد الأحمر بين جوانحه يطويه وتمر عليه وتحسبه يضحك مثل الزهر الأبيض مثل أخيه حلفتك إن أنت مررت على الورد الأحمر. يكفيه أن جروح العالم قد دفنت فيه.