رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أول ما يظهر في هذا الدعاء وفوائده إجتناب فتنة الكافرين !!! ففي قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} معنيان للآية الكريمة: المعنى الأول: عن مجاهد قال: (لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا). المعنى الثاني: ما جاء عن قتادة أنه قال: يقول:( لا تظهرهم علينا فيُفتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقٍّ هم عليه) والآية تحتمل هذين المعنيين. أي يا رب لا تجعلنا امتحانا في نظر الكفار إن غلبونا قالوا لو كنتم على الحق لنصركم الله فنفتن معهم . وهذا المقصد العظيم الذي هو البراء من الفتنة كان من سؤال المصطفى (صلى الله عليه وسلم): (... ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ..)لان الفتنة في الدين هي أخطر وأصعب الفتن، والعياذ باللَّه . كما قال تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي أن فتنة المسلم عن دينه حتى يرجع إلى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللَّه من القتل، وإزهاق النفس التي حرم الله. والفتنة كما هي امتحان فهي أيضا تعذيب، والمعنى على هذا (لا تجعلنا موضع فتنة) يعني لا تجعلنا موضع تعذيب للكفار يعذبوننا ويُسلَّطون علينا. فلا تجعل الكفار سبب فتنتنا، ولا تجعل الكفار غالبين لنا وتظهرهم علينا فنفتن نحن ؛ وكذلك يفتنون هم حيث يظنون أنهم على الحق وأننا على الباطل، وأنهم لولا ذلك لما انتصروا علينا، وأننا نحن لو كنا على الحق لكان النصر لنا عليهم. والمعنى على هذا أن يا رب انصرنا على الكفار ليظهر لديهم أننا أهل الحق وثبتنا على الحق، فيعلو الحق، ويكون ظهور الحق دلالة على صدقه وصدق أصحابه. ولهذا يدعو المسلمون برفع الفتنة عنهم لأن استمرار الفتنة يخشى منها فتور الهمم عن صد الباطل. ونحن ندعو الله تعالى بكل هذه المعاني فمع انحيازنا لديننا وعقيدتنا نرجو من الله تعالى رفع الفتن عنا، ورفع البلاء حتى لا نعذب فلا نتحمل أو نفتن عن ديننا فيفتن غيرنا، أو يظن الكفار أعداؤك أنهم على الحق ولهذا انتصروا، فاللهم عجل برفع البلاء وكشف المحنة وثبتنا على الحق حتى نلقاك. قال تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يعني أن من شأن الله تعالى وعادته أن يحق الحق بكلتي كلماته الشرعية الدينية، وكلماته الكونية القدرية، ولهذا آمنا بما أنزل من شرائع وتوكلنا عليه؛ فبيده الكلمات الدينية والكلمات القدرية؛ بيده الخير وهو على صراطٍ مستقيم في أقداره؛ فأقداره -كشرائعه- دائرة بين العدل والفضل قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} إن المقصود بهذا التفصيل هو الوصول إلى الإنكسار لله تعالى والإعتماد عليه ودعاؤه بكشف المحنة وألا يضعف المسلمون في لحظة الإبتلاء فيقدمون شهادة باطلة ضد دينهم. وذلك ما نخشاه اليوم من ابتلائنا بهذا الوباء الفتاك كورونا، لذلك نرجو أن يكلل الله تعالى جهود الأمة في حربها مع الوباء وغيره بنجاح وعزة وانتصار عاجل غير آجل. اللهم آمين. ثم فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد بين لنا في كتابه أحوال الفتنة وأخطارها، كما أن رسوله (صلى الله عليه وسلم) وهو لا ينطق عن الهوى بين لنا في أحاديث كثيرة أنواع الفتنة وأخطارها، وكل ذلك إنما هو للتحذير حتى لا نقع في هذه الفتن و حتى نخرج من هذه الدنيا سالمين، وحتى تنتهي بنا حياتنا إلى نهاية سعيدة يختم لنا فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، مخلصين بها مستيقنين، وفي الآخرة بالسعادة برضوان الله سبحانه وتعالى.فهذه لمحة سقناها في المخرج من الفتن. وأما قولهم: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا﴾: اي انهم بعد أن سألوا اللَّه تعالى أن يصلح لهم دينهم في معاشهم ومعادهم بإبعادهم عن الفتنة واسبابها، سألوه تعالى ما يصلح لهم أمورهم في آخرتهم: أي: يا رب استر ذنوبنا فيما بيننا وبين غيرك، وتجاوز عنها فيما بيننا وبينك ،فسؤال المغفرة يوحي بالتذلل والتوبة والإنابة كما يحمل أيضا دليل الإعتراف بالخطايا والذنوب التي لا يغفرها إلا الله . (وفي تكرار النداء بقولهم: ﴿رَبَّنَا﴾ إظهار للمبالغة في التضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث) وهذا يدلّ على شدّة إخلاصهم في دينهم، وكثرة توسّلهم إلى اللَّه تعالى في مطلوبهم. كما وأن تكرير التوسل بربوبية اللَّه تعالى المؤذن للإجابة، والقبول، والعناية، والحفظ له بالغ الأهمية؛ لأنّ ربوبية اللَّه عز وجل ربوبيتان: عامة، وخاصة: فالربوبية العامة لجميع الخلائق، وأما الربوبية الخاصة فإنما هي لخواصّ خلقه من المؤمنين، فهم يسألون هذه الربوبية التي تقتضي ما ذكر من العناية؛ ولهذا كانت أغلب أدعية القرآن مصدّرة بالتوسل إلى اللَّه بربوبيته؛ لأنها أعظم الوسائل على الإطلاق، التي تحصل بها المحبوبات، وتندفع لها المكروهات وتقضى بها الحاجات . ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: هنا يظهر جليا كيف أنهم اجتهدوا في التوسل إلى اللَّه تعالى بأكثر من توسل، وهو آكد في حصول الإجابة، دلّ على ذلك أنهم جمعوا بين توسلين: ثم بيّنوا علّة سؤالهم له تبارك وتعالى تأكيداً وتحقيقاً بأنه تعالى هو: ﴿الْعَزِيزُ﴾: الغالب الذي لا يُغلب ولا يقهر ، ولا يُذلُّ من لاذ بجنابه جلّ وعلا. وهو أيضا ﴿الْحَكِيمُ﴾: أي الذي يضع الاشياء في مواضعها،فيا رب أنت الحكيم في أقوالك، وأفعالك، وشرعك، وقدرك، أنت رب من تضع الأشياء في محلها. هذا وإن في اقتران اسم الله العزيز بالحكيم يدلّ على كمال آخر غير كمال كل اسم بمفرده، وذلك: أن عزته جلّ وعلا مقرونة بالحكمة، فلا تقتضي ظلماً وجوراً وسوءاً، كما في المخلوقين قد تأخذه العزّة بالإثم فيظلم، وكذلك حكمته تعالى مقرونة بالعزّ الكامل، بخلاف المخلوق، فإن حكمته قد يعتريها الذل، والله المستعان.