رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.》 لا زلنا مع مخ العبادة فإن الدعاء مخ العبادة ،وهذه الدعوات هي في غاية الأهمية، سجلها القرآن لأهل الإيمان من عباد الله المخلصين من بعد الصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين من التابعين والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، إنها دعوات تفيض محبة من قلوب امتلأت بالإيمان ؛ فلئن كانت حقوق المؤمن على المؤمن كثيرة، فإن من أبرزها الدعاء له في غيبته: في حياته، وبعد موته . فبعد أن أثنى اللَّه عز وجل على المهاجرين وهم السابقون الصادقون فقال: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ ثم ثنَّى بالأنصار الذين يحبون من هاجر إليهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ . ها هو القرآن يذكر الصنف الثالث من المؤمنين الذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، فاستوعبت هذه الآيات جميع المسلمين، وليس أحدٌ إلاّ له فيها حق ،وله فيها نصيب معلوم. قال الله تعالى:﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾: آثروا غيرهم على أنفسهم فذكروهم بالثناء عليهم وبمحبتهم لان لهم ميزة جليلة وهي السبق بالإيمان، اعترافاً بفضلهم؛ لأن الأخوّة في الدين عندهم أعزّ وأشرف من أخوَّة النسب، فجمعوا في الدعاء بطلب المغفرة لهم وللسابقين، وهذا من كمال الدعوات وأحسنها وأنفعها على الإطلاق . إن هذا الدعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين من الصحابة، ومن قبلهم، ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان، لأن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب الإيمان الذي يربط بينهم ، فهو العقد الذي يثبت الأخوة الإيمانية والعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والتي من فروعها أن يدعو المؤمنون بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضاً؛ ومقتضى ذلك ان تصفو قلوبهم من كل غل فلا تحمل حقدا ولا ضغينة، ولهذا ذكر اللَّه تعالى في هذا الدعاء نفي الغل في القلب الشامل لقليله وكثيره، الذي إذا انتفى، ثبت ضده، وهو المحبّة التامة بين المؤمنين. فجمعوا في هذه الدعوة المباركة بين سلامة القلب، وسلامة اللسان، فليس في قلوبهم أي ضغينة، ولا استنقاص لأحد بالذكر في اللسان، وإنها دلالة على جماع المحبّة الصادقة من اللَّه ربِّ العالمين لهم . ثم أكّدوا في تضرّعهم لله بإجابة دعائهم فقالوا : ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: توسّلوا إليه تعالى باسمين كريمين جليلين دالَّين على كمال رحمته تعالى، أي: يا ربنا ما دعوناك بهذا السؤال والدعاء إلا لأنك رؤوف رحيم. والرؤوف: اسم للَّه تعالى يدلّ على شدّة الرحمة وأعلاها، فهو أخصُّ من الرحمة. ومن كانت هذه خصالهم في الحبّ والمودّة في القلب واللسان بالدعاء والثناء لإخوانهم المؤمنين، جازاهم اللَّه تعالى خير الجزاء، قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم ثابة لمن دعا لإخوانه المؤمنين فقد قال: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب اللَّه له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)وهؤلاء سبقوا لهذه المزية العظيمة ، آثروا إخوانهم على أنفسهم فاعترفوا لهم بمزية السبق بالإيمان، ثم أعلنوا عن خالص الحبة لهم ، ولذلك نقول أنه لا يخفى أن الإكثار من ترديد هذه الدعوة العظيمة ينال صاحبها خيرات جمة في الدنيا والآخرة؛ لما في ذلك من الاستجابة لأمر اللَّه تعالى، وكثرة الحسنات التي لا تُعدُّ ولا تُحصى للداعي بها، وأن التوسل إلى الله بهذه الدعوات الطيبة يثمر في قلب العبد حب المؤمنين، والبُعد عن كل كراهية، أو حسد، أوغلّ، فهي تطهر القلوب، وتزكي الأنفس وهذا من أعظم مقاصد الدين وطاعة رب العالمين.قال الله تعالى : ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ الشعراء88 . فبطاعتهم لله وبحبهم لإخوانهم سلمت قلوبهم من أن يكون بها لغير الله شريك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديتهم لله تعالى: إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء، وخلص دعاؤهم لله؛ فإن أحبَّوا أحبَّوا في الله، وإن أبغضوا أبغضوا في الله، وإن أعطوا أعطوا لله، وإن منعوا منعوا لله، فحق لهم الفوز، وحق لنا ان نقتفي آثارهم .