لم تكن الحرب الأولى على غزة، ولن تكون الأخيرة، لكن في كل مرة نتساءل عن وجه الاختلاف في كل حرب، إلا أن النتيجة واحدة طبعا، مزيدا من الدمار والشهداء الأبرياء، رائحة البارود والدخان في كل مكان، ورغم أننا عشنا ثلاث حروب سابقة إلا أن شعبنا في القطاع يجمع على أنها حرب تجمع وتجب الحروب السابقة، حيث كانت أشرس وأكثر دمارا، وكانت بالنسبة لي أيضا هي الحرب الأصعب، لبعدي عن أولادي القاطنين هناك تحت الصواريخ، وأنا هنا تحت عدوان الاحتلال في الضفة، في قصة من قصص معاناة الشعب الفلسطيني التي يعيشها منذ النكبة، وكلانا الآن يعيش على أمل اللقاء بعد هذه الحرب اللعينة، التي قتلت كل شيء جميل من ذكرياتنا وذكريات أبنائنا في قطاع غزة الذين لم ينعموا منذ نشأتهم إلا بصوت العدوان والحرب، في محاولة يائسة لقتل مستقبلهم وروح الأمل في داخلهم.. كانت المدينة هادئة صافية قبل عدوان غربان الطائرات، غاضتهم الأحياء الجميلة وغزة الزاهرة، التي تنهض من ركامها دوما، وشريانها وحيها الرئيسي (الرمال) أحد أجمل مناطق المدينة، الذي تأسس في القرن ال18، باعتباره الحي العصري، والذي يبعد 3 كيلو عن مدينة غزة القديمة التي يمتد جذورها لعمق التاريخ الكنعاني، وتضم أهم كنائسها ومساجدها وأثار المعابد القديمة من الجامع العمري (الذي كان معبدا كنعانيا فكنيسة فمسجدا)، وتضم كنيسة بروفيريوس، والمساجد والمكتبات المملوكية وقصر الباشا (قصر نابيلون) وغيرها من المعالم من بيوت وحمامات وأسباط وأزقة، فجاء حي الرمال امتدادا لهذه المدينة، وأغلب من أسسوا الحي هم من سكان غزة القديمة، من العائلات المالكة ذو الأصول العريقة، وأصحاب رؤوس الأموال والعائلات البرجوازية آنذاك، وشكل منتصف القرن ال19 أوج امتداد وتطور الحي والصورة العصرية لمدينة غزة، ضم أهم المراكز التجارية والبنوك ومقر البريد والنوادي الرياضية، وحتى مقر المجلس التشريعي الذي يعود بناؤه إلى أواخر العهد العثماني، وقد زار الحي أهم القيادات السياسية التاريخية، وضم أهم المنشئات في عهد الانتداب البريطاني، فيما شهدت الرمال ازدهارا أثناء الوجود المصري، ومقرا للحاكم العسكري المصري، وانعكس ذلك على مظاهر العمران والبناء، فيما ضم أهم المباني التاريخية منها منزل المؤرخ عارف العارف، ومقر المحكمة القديمة، وأهم دور السينما والمسارح التي كانت لا تقل أهمية عن مدن فلسطين الأخرى في الثقافة والتحضر، ومن على شواطئ الرمال كتب كنفاني رسائله لغادة السمان، فيما كانت سيدات وهوانم الرمال يقدن نهضة تعليمية واجتماعية في المدارس والمعاهد والجمعيات جعلت الرئيس جمال عبد الناصر ينظم زيارة لهن عبر فيها عن تقديره لهذا التطور السابق عصره، فيما ذكرت جيهان السادات أنها كانت تزور غزة خصيصا لشراء مقتنياتها، حيث كان حي الرمال ملتقى التجارة القديمة مع التجارة الحديثة ما بعد الحداثة لتجعل غزة مزيج بين العصرين، بل وأصبح وجهة لرؤوس الأموال والحركة التجارية، ومركزا حضاريا وسياسيا وليس فقط اقتصاديا، يشقه الشارع الأهم الجندي المجهول (عمر المختار) الذي يربط بين غزة القديمة حتى البحر، والذي كان بالأساس عبارة عن امتداد لأحراش وبعض الغابات والكثبان الرملية التي نسبة لها سميت الرمال، كما زارها القائد الثوري « تشي جيفارا « وتجول في أزقتها الجميلة عام 1956، فيما ضمت بعدها مقرات الأممالمتحدة الرئيسية بعد أن تأسست المخيمات على أطراف الحي المطلة على البحر(مخيم الشاطئ) بعد عام 1948م، وكانت تضم مساحات واسعة وشوارع عريضة سمحت بسهولة التنقل والتخطيط العمراني، كل ذلك ازداد تطورا ونموا بعد عودة السلطة الوطنية وتمركز المقرات والمؤسسات الرئيسية الرسمية، واتخاذها مقرا للرئيس ياسر عرفات طوال سنوات ومركزا سياسيا هاما، لذلك كان الحي هدفا للعدوان في كل مرة مثله مثل كل مناطق القطاع، لكن في هذه الحرب، كان واضحا استهداف كل مظاهر الجمال والتطور والتقدم ورمزية مدينة غزة المتمثلة في هذا الحي، بضرب كل البنى التحتية والشوارع والعمارات والمؤسسات والمحال والمولات، والأبراج العالية التي تضم أهم مؤسسات الصحافة والوكالات العالمية، والمكاتب التجارية، وكل منها يعتبر بمثابة قرية قائمة بذاتها، والهدف هو أحداث هجرة جديدة داخل القطاع وضرب شريان الاقتصاد لتنضم لمجموع المناطق المهجرة والمدمرة، لدرجة لم يعد هناك معالم للشوارع ولا طريق تؤدي إلى المستشفى الرئيسي في المدينة (مستشفى الشفاء) حيث تقطعت كل السبل لوصول سيارات الإسعاف إلى هناك، بعد ضرب كل الممرات باتجاه المشفى، وحتى الطريق لعيادة الرمال الرئيسية، بل استهدف العدوان عائلات بأكملها تضم أطباء ومهندسين وأطفال في مقتبل العمر، وربيع الشباب، أجدادهم من مؤسسي المدينة، ارتبط وجودهم بها، وخلدت أسماءهم فيها، مع الرمز التذكاري للجندي المجهول الذي لم يعد يتسع للشهداء، وعائلات الحي التي مسحت من السجل المدني، الاحتلال حاول ان يقتل الجمال في غزة، وأن يستهدف الماضي والحاضر والمستقبل، حتى هاجرت العصافير أحيائها الهادئة، واختلط لون الدخان بسمائها الصافية، احترقت أثواب السيدات المطرزة بألوان الوطن فيها وتحطمت ماكينات الخياطة الأثرية، وتناثرت الصور القديمة من محل التصوير الفوتوغرافي القديم (كوداك) ،والذي يضم صورة غزة العصرية في قلب الحي، وتشققت أعمدة بيوت الرمال التي تشهد على حقبة عامرة غنية، وتطايرت صفحات الكتب من مكتباتها، لم تسلم زاوية، حتى معهد الامل لأيتام، ومعهد الموسيقى الذي كان ينشد ترانيم الحب والسلام، والمؤسسات التربوية والاجتماعية ومحيط جامعاتها، والمقاهي القديمة التي يرتادها كبار المنطقة وشبابها يتسامرون في حياتهم اليومية، حتى كافتيريات شاطئ الرمال المتنفس الوحيد لمرتاديها، ورغم أن كل القطاع من شماله لجنوبه كان عرضة دائمة لاستهداف الاحتلال بقصفه المتواصل طوال الحروب السابقة لكن ما ميز هذه الحرب هو تدمير أهم حي في قلب غزة، في محاولة لوقف نبض المدينة، باستهداف الرمال الجميلة، وتحويلها لرمال متحركة ابتعلت من فيها، وكل مظاهر الحياة التي كانت تعج بها، قد تلملم الرمال جراحها كحال كثير من المناطق، لكن ستبقى صور العدوان محفورة في ذاكرة الحي تكتب حكاية من حكايات صمود هذا الشعب، وسيخرج منها من يكتب روايات وقصص منسية من جدرانها المنهارة، تحت أشجارها الباسقة العريضة والتي كل دائرة في جذعها يذكرك بجذور حي الرمال، فقد قال لي احدهم لن تعرف شوارع الحي بعد الآن، فقلت حتى لو كنت ضريرا سأعرفها بقلبي..