^ كيف تقرؤون رد الجزائر على التصريحات الأخيرة التي نسبت للرئيس الفرنسي ماكرون ولم يتم تكذيبها رسميا بعد؟. قبل الحديث عن الرد الجزائري الرسمي على تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون، لابد لنا أن نكشف الخلفيات الحقيقية التي تقف وراء الإدلاء بمثل هذه التصريحات المستفزة من قبل الرجل الأول داخل قصر الإليزيه، والتي تنم عن اللامسؤولية من وراء رغبة محاولة استرضاء شرذمة من اليمينيين على حساب قيم الجمهورية الفرنسية ومبادئ الاحترام المتبادل بين الدول التي لطختها مثل هذه التصريحات، والتي كشفت أيضا عن حسابات انتخابية ضيقة تهدف إلى المحافظة على كرسي الرئاسة، حيث لم يسبق لماكرون منذ سنة 2017 أن تجرأ بمثل هذا التوصيف على السلطات الجزائرية والتعدي على تاريخ دولة كاملة السيادة بحجم الجزائر. فجاء التصريح كإعلان مسبق لتوجهات ماكرون الجديدة المغايرة تماما لبرنامج وتحالفات حملته الانتخابية لعهدته الرئاسية الحالية، والتي يحاول من خلالها أن يتكيف بسياساته مع جملة التحولات الجوهرية والحساسة على أكثر من صعيد داخلي وخارجي (عالمي وإقليمي)، حيث تتخبط فرنسا حاليا بين جنبات أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة سبق وأن كشفت عنها احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، وهو ما انعكس على الوضع الاستراتيجي لفرنسا في مسرح العلاقات الدولية الدال على انحدارها في سلم القوى الدولية بعد أن ألغت استراليا صفقة اقتناء غواصات حربية فرنسية الصنع بقيمة 40 مليار دولار وتحويلها إلى الولاياتالمتحدة، فرنسا التي من المفروض أنها الحليف التقليدي لهذه القوى اقتصاديا وعسكريا ضمن حلف الناتو، تعرفت بهذا الإقصاء والتهميش على حقيقة موقعها ضمن الوضع الاستراتيجي العالمي الجديد، فظهرت بمظهر رجل الدولة الغبي الساذج الذي تعرض للخيانة من أقرب حلفائه. ضف إلى ذلك فإن دوائر العمق الاستراتيجي الذي تنتمي إليه فرنساوالجزائر (حوض المتوسط وإفريقيا) على حد السواء يشهد تغيرات جوهرية على موازين القوى وظهور مراكز قوى جديدة مختلفة عن الأوضاع السابقة التي لطالما اجتهدت فرنسا في الحفاظ عليها لصالحها، ولعل ضمن هذا التوصيف تظهر الجزائر كقوة تمدد جديدة على ضوء التحولات السياسية الحاصلة، كشفت عن ملامح تغير استراتيجي في العقيدة الجزائرية دبلوماسيا وأمنيا وحتى اقتصاديا، محورها إعادة الدور الريادي إقليميا وعالميا للجزائر من خلال تحركها نحو حلحلة مجموعة من الأزمات الدولية التي على علاقة مباشرة بالأمن والاستقرار الدوليين، (كالأزمة في مالي وليبيا وقضية الصحراء الغربية ومشكلة سد النهضة على سبيل المثال لا الحصر....) وهو ما لم يرق لصانع القرار في باريس وجعله يتحرك على وجه السرعة في اتجاه الجزائر بهدف التشويش على عليها ومنعها من التمدد الإقليمي الذي من المؤكد سيكون على حساب مصالح فرنسا الاستعمارية. أما فيما تعلق بالرد الجزائري على هذه الخرجة الاستفزازية التي جاءت أثناء لقاء ماكرون بشباب ذوي أصول جزائرية من أحفاد الحركى والأقدام السوداء في إطار حملته الانتخابية غير الرسمية للرئاسيات المقبلة، فهذا حسب اعتقادي أول الغيث فقط، حيث جرت العادة عندما تدخل علاقات دولتين مرحلة أزمة حرجة مثلما هو حاصل في العلاقات الجزائرية الفرنسية التي لا طالما مرت بمثل هذه الظروف، أن يتم استدعاء سفير الدولة المستضَافة للاحتجاح في حده الأدنى، وإلا استدعاء سفير الدولة المستضيفة للتشاور، في انتظار رد رسمي على موضوع الاحتجاج، وهو ما فعلته الجزائر كمرحلة أولية في انتظار رد واضح من الإليزيه على تعدي رجله الأول على تاريخ الجزائر ومؤسساتها السيادية، هذه السقطة لا تعدو تمثل حقيقة التصور الذي تفكر به دواليب صناعة القرار في فرنسا التي لازالت متمسكة بماضيها الاستعماري الأسود وتتباهى به. ^ هل تتوقعون تحركات أخرى بعد استدعاء سفير الجزائربفرنسا؟ هذا الرد الجزائري على حماقة ماكرون التي تحكمها حسابات انتخابية تعبوية ضيقة، جاء متماشيا مع ما تنص عليه وتقتضيه الأعراف الدبلوماسية في مثل هذه المواقف فاستدعاء السفير الجزائريبباريس بعد الاحتجاج لدى السفير الفرنسي بالجزائر يمثل الحد الأدنى من الاحتجاج في انتظار رد واضح من الإليزيه لا يقل عن الاعتذار إما بالتكذيب أو وضع التصريح في سياق آخر، يحفظ حدود الاحترام المتبادل وعدم التعدي على سيادة الدول. دعني أقول أن الخصوصيات التي تميز العلاقات الجزائرية الفرنسية حتى قبل الفترة الاستعمارية، وحاليا أيضا في ظل التحولات السياسية داخل الجزائروفرنسا على حد سواء وعلى المستوى الدولي أيضا، تجعل من هذه الخرجة غير بريئة ، استوجبت الرد عليها سريعا، هناك العديد من القضايا الشائكة بين البلدين كملف الذاكرة ومخلفات الحقبة الاستعمارية ومواضيع الشراكة التي شرعت الجزائر في مراجعتها بعد سقوط المنظومة التي كانت ترعى مصالح فرنسا في الجزائر والكثير من القضايا الإقليمية التي تهم البلدين وتتميز باختلاف الرؤى حولها... يمكن أن تذهب بالعلاقات إلى مستوى أعلى من التوتر فالجزائر تريد أن تعيد توجيه العلاقات الثنائية لصالح البلدين لا في اتجاه واحد ومراجعتها بما يضع مصالح الجزائر عنوانا رئيسيا لها، وهذا ما يقتضي معالجة الكثير من الملفات المرتبطة بالذاكرة وتصحيح مسار الشراكة الاقتصادية وتعديل ميزان علاقات القوة إقليميا بما يتماشى مع حجم وقوة كل دولة، وهي القضايا التي للجزائر ما ستقوله فيها على المدى القريب، وهو الأمر الذي أعتقد بأن دوائر صناعة القرار الفرنسية ستضعه في خانة التصعيد بما يفرض عليها الرد وبالتالي تذهب العلاقات أكثر إلى التشنج لا التهدئة. ^ هل سيتدارك قصر الايليزي الأمر قبل تصاعد الوضع ؟ ماكرون سياسي غير محنك ولا يتمتع بخبرة كافية تجعله مؤهلا أن ينبش في ملف بهذه الدرجة من الحساسية في العلاقات الجزائرية الفرنسية، بل هو أقل بكثير من أن يكون ندا للنظام السياسي الجزائري بما له وبما عليه، ولعل الإهانات المتكررة التي يلقاها من الرأي العام الفرنسي على المباشر وعبر وسائل الإعلام الفرنسية المرئية والمسموعة، تضعنا في صورة حجم هذا الرئيس الحقيقي الذي أراه أقل جرأة من وضع النقاط على الحروف وتسمية الأمور بمسمياتها، خرجته هذه لا تعبر عن رغبة في تهدئة صراع الذاكرة، بل عن توظيف غير بريء لهذا الملف في المنافسة الانتخابية والسياسية بهدف استرضاء واستمالة شرذمة من اليمينيين المتصاعد خطهم على المستوى الأوروبي لا الفرنسي فقط، لذلك وجب أن تبقى خرجاته وبرامجه في حدود قواعد اللعبة السياسية داخليا دون توظيف للعلاقة مع الجزائر في المنافسة على الرئاسة، أمام ماكرون ملفات داخلية حساسة واجب الانتباه إليها وتوظيفها في برنامجه الانتخابي، اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، وقضايا متعلق بالتراجع الفرنسي الرهيب على سلم القوى الدولية تحتاج إلى معالجة، لذلك وجب تصحيح مسار علاقة النظام الفرنسي قاطب لا ماكرون فقط، مع الجزائر حكومة وشعبا وتاريخا، ليس بتصريحات ومراوغات ولكن بواقع ملموس يدخل العلاقات الثنائية بين البلدين مرحلة جديدة مبنية على تكافؤ الفرص وعلى الاحترام المتبادل. ^ لماذا في نظركم اختار الرئيس الفرنسي الوقت الراهن للتهجم على الجزائر؟ كما سبق وذكرت هناك مجموعة من المتغيرات المرتبطة بالداخل الفرنسي من جهة، وتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية في الجزائر من جهة ثانية، والتحولات الجيوسياسية والإستراتيجية الحاصلة حاليا على الساحة الدولية عالميا وإقليميا ألقت بثقلها على ملفات العلاقات الثنائية الفرنسية الجزائرية، فرنسا لطالما وظفت تأزم وتوتر علاقاتها بالجزائر في التعتيم على الكثير من المشاكل والقضايا السياسية والاجتماعية والسياسية الداخلية، مثلما يفعل في ذلك نظام المخزن المغربي، حيث استهدف ماكرون استمالة اليمين المتصاعد في أوروبا لتوسعة وعائه الانتخابي المضاف إلى أبناء الحركى والأقدام السوداء الذين دأب على تكريمهم وتحفيزهم لنصرته، وأراد في المقابل أن يشوش على مساعي الإصلاح السياسي والاقتصادي في الجزائر التي من المفروض والمؤكد أن تكون على حساب المنظومة الممثلة لمصالح فرنسابالجزائر والتي لطالما حالت دون إقلاعها واستقرار أوضاعها السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية كذلك، ومن جهة أخرى أراد ماكرون بالتأكيد التعتيم على الإخفاقات الفرنسية المتتالية على الساحة الدولية والتراجع الفرنسي الرهيب ضمن قواعد اللعبة الدولية، والذي من المؤكد لن يخفى على أجنحة وصقور اليمين الفرنسي الذي يتربص بهذا التيار الجيد الذي خلقه ماكرون بين اليمين واليسار لإزاحته من قصر الإليزيه، أضلع هذه الورطة التي وقع فيها ماكرون حتمت عليه من وجهة نظري البسيطة أن يلجأ إلى اللعب على وتر الذاكرة وحساسية العلاقة مع الجزائر لكسب أوراق ربح جديدة في الوقت بذل الضائع. ^ تحركات الرئيس الفرنسي سبقتها خرجة مماثلة منذ أسبوع عند ثنائه على الحركى المقيمين بفرنسا؟ هذا التوظيف البائس لملف الذاكرة والحكم في التاريخ من قبل الساسة غير مقبول البتة، ولطالما عبر النظام السياسي الجزائري عن رفضه لمثل هذه الإنزلاقات التي لن تخدم أبدا مشروع ترقية الشراكة الجزائرية الفرنسية، مثل هذه الخرجات والسقطات لن تزيد الأمر إلا تعقيدا، وعلى فرنسا أن تختار وبشكل نهائيا إما أن ترتب علاقاتها مع الجزائر بما يخدم مصالح البلدين وبالتالي احترام مبادئ الصداقة وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السيادية، وإلا فإن المآل سيكون الدخول بمثل هذه التصرفات إلى نفق مظلم أكيد أنه لن يضر مصالح الجزائر الكبرى أكثر مما سيفعله بفرنسا في ظل حاجتها الدائمة للجزائر وارتباطها بها اقتصاديا واجتماعيا في ظل عدم توفر بدائل أمام باريس على ضوء تراجعها الدولي الرهيب على أكثر من صعيد، على عكس البدائل الدبلوماسية والاقتصادية المطروحة أمام الجزائر لتنويع شركاتها في ظل التحولات الاقتصادية الجيوسياسية الحاصلة دوليا في الوقت الراهن، الممهدة لتغير موازين القوى بشكل كبير بما فيها علاقات القوة التي تربط الجزائربفرنسا.