لم يكن أحد يتوقع أن يفجر المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، إيمانويل ماكرون، قنبلته بخصوص الماضي الاستعماري، من الجزائر.. تصريح بقدر ما خلف "ثورة" في بلاده، التي دأب مسؤولوها على الهروب إلى الأمام كلما واجهتهم ممارسات ماضي بلادهم الاستعماري، بقدر ما أحرج أيضا السلطات الجزائرية التي ظلت وعلى مدار نحو 12 سنة تتعامل مع هذه القضية بطريقة غير مفهومة. فلا تكاد تمر ذكرى تخلد الثورة، إلا وسمعنا حديثا عن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، غير أنه ومع ذلك لم نلمس موقفا جديا يجرم الاستعمار أو يدفع المستعمِرة السابقة للاعتراف بجرائمها، إلى درجة أن البعض بدأ يشك في وجود إرادة سياسية لدى السلطة على هذا الصعيد. فهل للسلطات الجزائرية دور في رفض اعتذار فرنسا؟ وهل باشرت مفاوضات جادة مع باريس لإقناعها أو حملها على الاعتراف بجرائم الاستعمار؟ ثم لماذا لا يزال مقترح مشروع قانون تجريم الاستعمار مكسوا بالغبار في أدراج البرلمان؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها.
"ثورة" ضد ماكرون في باريس و"لا حدث" في الجزائر هل تعترف فرنسا فعلا بجرائمها الاستعمارية؟ لأول مرة يتحول الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر، إلى مادة دسمة في الحملة الانتخابية للسباق نحو قصر الإيليزي، بل إن هذه القضية باتت أشبه بساحة للمزايدة بين المترشحين باستثناء المنتمين لليمين بشقيه التقليدي والمتطرف، أما في الضفة الأخرى (الجزائر) فقد بقي التجاوب أقل مما كان منتظرا. ويرجع الفضل في إثارة هذا الجدل إلى الجرأة غير المتوقعة التي أبان عنها المرشح المستقل، إيمانويل ماكرون، خلال الزيارة التي قادته للجزائر مؤخرا، والتي خلفت صدمة لدى الأوساط اليمينية واليمينية المتطرفة، المدعومة من قبل الأقدام السوداء والحركى. ماكرون رفع السقف عاليا عندما وصف الاستعمار بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وإن حاول تعديل هذه العبارة لتصبح "جريمة ضد الإنسان"، للتقليل من وطأتها القانونية والجنائية على من لا زال على قيد الحياة من أبناء الجيش الاستعماري لامتصاص غضب الثورة التي اندلعت ضده، إلا أن ذلك لم يحل دون تطور النقاش بعد ذلك، ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة بهذا الخصوص. فقد سئل بنوا هامون، مرشح الحزب الاشتراكي الحاكم، من قبل وسائل إعلام فرنسية، إن كان ينوي تقديم اعتذار عن الحقبة الاستعمارية في حال انتخابه رئيسا للجمهورية؟ وكان الرد سريعا: "سأرى إن كان بهذه الصيغة (اعتذار) يجب التعبير عن أسفنا لشعوب الجزائر، تونس والمغرب وكل الشعوب التي تعرضت للاستعمار، ولكن يبدو لي أنه يجب مواجهة تاريخنا". واللافت في الأمر هو أن "الطريدة" التي ألقاها ماكرون، لم تستقبل كما يجب في الجزائر، فبينما تجاهل حزب جبهة التحرير الوطني المسألة وكأن الأمر لا يعنيه، راح أمين العام التجمع الوطني الديمقراطي، أحمد أويحيى ومعه وزير المجاهدين، الطيب زيتوني، يقللان من أهمية تلك التصريحات، بوضعها في خانة المزايدة الانتخابية. قد يكون توظيف مثل هذه التصريحات في السباق الانتخابي للرئاسيات الفرنسية محتملا بالنظر للسياق الزمني الذي جاءت فيه، إلا أن ذلك لا يعني عدم الاستثمار فيها من قبل السلطات الجزائرية، فمثل هذه الفرص قليلة وقد لا تتكرر. لقد حولت تصريحات وزير الاقتصاد السابق ممارسات الاستعمار الفرنسي للجزائر، إلى قضية رأي عام ومادة دسمة للتداول الإعلامي في فرنسا بشكل غير مسبوق، وقد بينت عمليات سبر الآراء التي أجريت بعد ذلك، أن غالبية الفرنسيين مع الاعتذار للجزائريين عن المآسي التي سببها لهم الاستعمار. ثم بعد ذلك يخرج أويحيى ليقول للجزائريين إن اعتذار فرنسا عن 132 سنة من الاحتلال الاستيطاني والوحشي لبلادهم، ليس من الأولويات بالنسبة للدولة الجزائرية.. ومادام أن شخصية بوزن أويحيى الذي تقلب بين كل المناصب السامية في الدولة باستثناء رئاسة الجمهورية، يفكر وفق هذا المنطق، فمن يدري أن رفض فرنسا الرسمية الاعتذار للجزائريين مرده إلى عدم وجود رغبة أو إرادة سياسية لدى السلطات الجزائرية في طلب الاعتذار. هذا الاحتمال يبدو فيه الكثير من الوجاهة، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال العودة إلى المراحل التي شهدت فيها العلاقة بين الجزائروباريس "حروب ذاكرة". ففي 2005، عندما أقدم البرلمان الفرنسي على تمجيد الاستعمار بسنه القانون المثير للجدل "قانون 23 فيفري 2005"، حاول المجلس الشعبي الوطني الرد عليه بسن قانون آخر يجرم الاستعمار، وعلى الرغم من أن المشروع وصل إلى مرحلته النهائية، إلا أن قرارا "فوقيا" حال دون إنجاز هذا القانون. وقد عاود الساعون لتجريم الاستعمار الكرة مرة أخرى في العهدة التشريعية (2007/2012)، بمقترح مشروع قانون تقدم به كل من النائب موسى عبدي عن جبهة التحرير ومحمد حديبي عن حركة النهضة، إلا أن إدارة المجلس في عهد عبد العزيز زياري، كانت له بالمرصاد، وهو لا يزال إلى غاية اليوم حبيس أدراج مبنى زيغود يوسف.. وهنا يصبح طرح السؤال التالي أكثر من مشروع: هل السلطات الجزائرية تريد فعلا تجريم الاستعمار؟
صاحب مقترح مشروع قانون تجريم الاستعمار الموؤود..موسى عبدي: ماكرون وجه آخر لهولاند وخرجته حملة انتخابية ما تعليقكم على تصريحات المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، إيمانويل ماكرون؟ قرأت تصريحات ماكرون، ووجدتها ذات وجهين، فالتصريحات خطوة جد إيجابية لتطوير العلاقات الثنائية وهي نفس الخطوة تقريبا، التي خطاها الرئيس هولاند خلال زيارته للجزائر، حيث أكد في خطاب شهير ألقاه أمام نواب البرلمان، على ضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، وأعرب عن اعترافه بمعاناة الشعب الجزائري خلال فترة الاستعمار الفرنسي، كما سبق لهولاند أن قام خلال حملته الانتخابية برمى أزهار في نهر "السين" ترحما على أرواح ضحايا مظاهرات 17 أكتوبر 1961، وأنا أعتقد بأن هذا اعتراف شبه رسمي من طرف الفرنسيين، وايمانويل ماكرون، يسير على نفس وتيرة هولاند، أما الوجه الثاني للتصريحات فأضعها في خانة الحملة الانتخابية، حيث تعودنا على أنه كلما يأتي موعد انتخابي، يتكلم مرشح على الاستعمار، وأنا أتخوف من أن يكون كلام ماكرون مجرد حملة انتخابية فقط. تعتقدون بأن هذا التطور في التصريحات ليس صدفة بقدر ما هو مدروس؟ كما قلت سابقا، كلما تحين الفرصة للمرشحين الفرنسيين يُثيرون القضية مجددا ويجري حديث عن الاستعمار وجرائمه، بمعنى يراهنون على القوميات لجلب الأصوات، لكن هذه المرة فيه نوع من الإيجابية، على اعتبار أن اليسار الفرنسي الذي ينتمي إليه ماكرون متشبع بثقافة الإنسانية ويريد التسويق لهذا الأمر، وقد يكون ذلك في صالح الجزائريين. إذا لماذا ثارت ثائرة الفرنسيين على ماكرون؟ حدث ذلك من طرف الحركى وبقايا المعمرين من الأقدام السوداء الذين يرفضون فكرة أن الاستعمار جرائم ضد الإنسانية، لأن لهم ماض دموي أما بقية الشعب الفرنسي والجيل الجديد بدأ يتقبل الفكرة بكل تواضع وإنسانية بدليل أن تصريحات ماكرون حظيت بدعم تيار قوي في المجتمع الفرنسي، حسب استطلاع للرأي أثبت أن 51% أيدوا رأي ماكرون، بأن الاستعمار ضد الإنسانية، فيما أبدى 49 بالمائة معارضتهم لها. هل سنشهد مواقف فرنسية جديدة حول قضية الاستعمار بعد الرئاسيات الفرنسية؟ الشيء الإيجابي والجميل في تصريح ماكرون، تخلىّ وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، برنارد كوشنير، عن موقفه المتشدد والرافض لأي اعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر، عندما قال بأن بلاده "ارتكبت جرائم مروعة في الجزائر وعليها الاعتراف بذلك". تابعتم تصريحات أويحيى الذي يرى أن مسألة تجريم المستعمر ليست أولوية في الوقت الراهن، ما تعليقكم؟ أولا، الأرندي اتخذ منذ البداية موقفا سلبيا من مقترح صياغة قانون لتجريم الاستعمار بدليل أن 120 نائب أمضوا من أجل تمريره، ولم يكن من النواب الممضين إلا نائب واحدة عن التجمع الوطني الديمقراطي، لكن تم إقصاؤها من طرف الحزب في قرار غريب، ومع احترامي للسيد أويحيى، إلا أنه لا يزال متشبعا برفض تجريم الاستعمار، أما حديثه بأن تجريم الاستعمار ليس أولوية، فنقول له بأن بناء الشعوب والحضارات لا يتم إلا بتسوية القضايا التاريخية لإثبات تشبث الدولة بوطنيتها، ومقترح التجريم يرمي إلى الحفاظ على ذاكرة الأمة وتطعيم أبنائنا بالثقافة التاريخية. الجزائر مقبلة على تنظيم انتخابات تشريعية، هل يستطيع البرلمان، بتركيبته الجديدة إحياء هذا القانون الذي كنت أول من اقترحه سابقا وتم إسقاطه؟ أعتقد بأن الجزائر تمر بظرف خاص بسبب الأوضاع الإقليمية والدولية الخطيرة والمؤامرات الخارجية والحدود الملغمة، لكن في نظري، بإمكان البرلمان أن يتحين الظروف مع بداية تشكل قابلية لدى الرأي العام الفرنسي بجرائمهم في الجزائر، لكن يجب في بداية الأمر أن يحصل توافق أكثر في وجهات النظر بين باريسوالجزائر.
الأمين العام السابق لمنظمة أبناء الشهداء..الطاهر بن بعيبش: ماكرون ورّط الحركى والأقدام السوداء.. و"التجريم" مجرّد كلام ما هي القراءة التي تقدمونها للتصريحات المثيرة للجدل لمرشح الرئاسة الفرنسية ايمانويل ماكرون حول تجريم الاستعمار؟ نحن نشجع مثل هذه التصريحات الصادرة من مسؤول فرنسي بحجم ايمانويل ماكرون، بعيدا عن التفكير إن كانت صادرة عن قناعة منه أو أنها مجرد حملة انتخابية يراد من خلالها كسب أصوات الجالية الجزائريةبفرنسا ومغازلتهم بمثل هذا الطرح الغريب عن الفرنسيين المتسابقين إلى كرسي الرئاسة.. وعلى العموم يمكن القول إن مثل هذا التصريح يصنف في خانة الاعتراف الذي يرجى منه الالتزام في حال وصول ماكرون إلى قصر الاليزيه. مثل هذه التصريحات برأيك هل يمكن أن تحدث تطورا على صعيد تعاطي السلطة الفرنسية مع هذه القضية مستقبلا؟ في البداية يجب أن نضع النقاط على الحروف في هذه القضية بالذات، وقبل الحديث عن تعاطي السلطات الفرنسية مع مسألة تجريم الاستعمار، يجب أن نتحدث عن موقف السلطة في الجزائر، وتعاطيها مع قانون تجريم الاستعمار الذي تم وأده في البرلمان قبل عرضه للمناقشة، فتصريحات ماكرون ستبقى حبرا على ورق مادام المسؤولون هنا يرفضون الخوض في هذا الملف، خاصة وأنها صدرت من مسؤول فرنسي بحجم مانويل ماكرون، فهذه تعتبر شهادة قوية بغض النظر إن وصل هذا الأخير إلى قصر الايليزي أو لا، لهذا أقول واكرر إن المشكل موجود في الجزائر في ظل غياب الإرادة السياسية لمسئولينا، الذين تسببوا في دفن مشروع قانون تجريم الاستعمار وغيره من الملفات على غرار المطالبة بالأرشيف. لماذا أحدثت تصريحات ماكرون ضجة إعلامية كبيرة في فرنسا، خاصة وأنها لم تكن الأولى فقد سبق وأن تحدث الرئيس الفرنسي المنتهية عهدته فرانسوا هولاند عن الاستعمار ووصفه بالظالم؟ الحديث عن حدوث ضجة إعلامية وسياسية في فرنسا بعد هذه التصريحات هو أمر عادي جدا، وكان مثل هذا الجدل سيحدث لو خرج مسؤول جزائري وصرح بمثل هذه التصريحات، فقول ماكرون إن الاستعمار الفرنسي في الجزائر جريمة ضد الإنسانية ليس بالسهل أن يتقبله الفرنسيون، وسيكون له تبعات كبيرة مستقبلا، لاسيما وان الجزائر ليست الدولة الوحيدة المعنية بالاستعمار الفرنسي الذي احتل العديد من الدول الإفريقية والآسيوية، وبالتالي القضية تاريخية ومرتبطة بحقبة معنية وسيكون لها تأثير على الأجيال. هناك من يقول في فرنسا إن مثل هذه التصريحات لن تمر بردا وسلاما ويمكن أن تعيد تحيين المتابعة الجنائية لكل المتورطين في هذه الجرائم؟ صحيح؛ مثل هذه التصريحات ستضع الحركى والأقدام السوداء في قفص الاتهام، لاسيما وان القانون الدولي واضح في الجرائم التاريخية ويحاسب عليها، ولهذا يمكن أن تعيد تصريحات ماكرون فتح الملف ويحاسب كل شخص وكل مسؤول تورط في الجرائم ضد الإنسانية التي وقعت في الجزائر طيلة 132 سنة، شرط أن يتم استغلالها بشكل جيد في الجزائر. برأيك هل سنشهد موقفا فرنسيا جديدا بخصوص هذه القضية بعد الرئاسيات المقبلة؟ يمكن أن يحدث ذلك في حال وصول ايمانويل ماكرون إلى كرسي الرئاسة، عندها سيكون مجبرا على الالتزام بطرحه بخصوص اعتبار الاستعمار الفرنسي في الجزائر جريمة ضد الإنسانية، ونفس الشيء في حال وصول أحد من اليسار الذين سيعملون على تهدئة الوضع وتلطيف الموقف، إلا أن الأمور ستكون مختلفة في حال فوز اليمين المتطرف الذي لن يجد حرجا في الانقلاب على هذه التصريحات وتجريمها، لهذا على المسؤولين في البلاد الذين سبق وأن رفضوا مناقشة مشروع تجريم الاستعمار وهم معروفون، أن يتعلموا من ايمانويل ماكرون الذي لقنهم درسا في الجرأة ، لذا أقول لهم "ماكرون أخرسكم جميعا".