بداية، أقدم شكرا جزيلا واعترافا بالريادة الذي مازالت جريدة "الجمهورية" تقدمه للأدب و للمثقفين و الأدباء الجزائريين مثل "النادي الأدبي" و غيره من الملاحق و الملفات التي اعتنت بالأدب و الأدباء في الجزائر و في العالم.. أما بعد، فإن مصطلح "النقد" مشتق من "نقد" بمعنى ميز جميل الشيء عن رديئه. والنقد، بهذا المفهوم، ظل عملية أو مهنة طالما كرهها الأدباء، حتى ناصبوها العداء واعتبر الكثير منهم الأدباء أعداء لهم و لكل الفئات المبدعة. لكن، في حقيقة الأمر أن النقد وممارساته حلقة تواصلية بين الأديب والنص من جهة وبين الفئات القارئة لابد للأديب، إذا أراد الخلود والبقاء والشهرة، أن يستعين بها وأن يخضع لها، إذ لا يمكن لأي أديب مهما كانت مكنته الأدبية والفنية أن يستغني عن النقد وعن النقاد، وإلا ظل مجهولا و بات مهمشا لا أحد يهتم أو يعتني به أو بنصوصه الأدبية التي يكتبها وخاصة بعد فكرة"رولان بارث" القائلة بموت المؤلف. ولذلك، ظل النقد الأدبي، على مر العصور والأزمنة، تلك البوصلة التي تساهم بقوة تارة في تثمين وتوجيه مضامين النص وتحديد القضايا التي يشتغل عليها وتارة أخرى في صقل واجهاته الحمالية وفي تبيان خصائصه الجمالية. ❊ مسيرة حافلة بالأمجاد ولقد سجلت مسيرة النقد الأدبي، الحافلة بالأمجاد، بفخر واعتزاز صناعة الكثير من الأمجاد الأدبية على مر العصور، إن في التعريف بعمالقة الأدب أو في ترسيم وترسيخ الآليات والمناهج التي كانت تأثيراتها على الأدب جليلة وبارزة، بداية من الحواريات التي كان يديرها الفلاسفة الإغريق حول الأدب والأدباء ومرورا على سوق عكاض، على أيام العرب، وعلى المجالس الأدبية التي كانت تعقد على أيام الحضارة الإسلامية، و التي كان يفصل فيها في بعض القضايا الأدبية التي كانت تثير النقاش حينذاك، ثم جماعة "أبولو" و"مدرسة الديوان" على المستوى العربي، وكذلك مرورا على المنتديات الأدبية التي طبعت النهضة الأوروبية التي كانت تعقد هنا وهناك، والتي كان من ثمراتها انبثاق العديد من المناهج النقدية التي لا غنى عنها في الجامعات وفي المؤسسات الأكاديمية المعاصرة. ولا اتصور أحدا ينكر ما قدمته المناهج النقدية، سواء كانت مناهج سياقية مثل المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي والمنهج النفسي والمنهج الحمالي، أو كانت مناهج نسقية مثل المنهج اللساني بحقوله و تفرعاته والمنهج البنيوي بتجلياته ومساربه الفلسفية والمنطقية ، كما لايمكننا نكران ما قدمته حلقتي "موسكو" و"براغ" و"كانستانس" للأدب من رؤى و آليات جديدة ومفيدة لدراسة النص الأدبي والفني بصفة عامة، ناهيك عن مساهمة العديد من المجلات والدوريات العالمية التي افادت، بصفة مباشرة أو غير مباشر، الأدب وساهمت في تجديد النظر إلى القضايا التي يطرحها أو في زاوية النظر إلى ماهية الأدب و دوره في حياتنا المعاصرة. ولو عجنا على حقل النقد الأدبي في الجزائر لوجدناه قد لعب دورا بارزا في تكوين الناشئة الأدبية في مختلف الأجناس الأدبية،إذ لا أحد منا ينكر دور أعلام النقد الأدبي في الجزائر بداية من تلك المقالات القارئة للنصوص الأدبية،شعرية أوسردية، التي كانت تنشر في الجرائد والدوريات والمجلات ،على قلتها، في مختلف مراحل التواجد الأدبي في الجزائر، وخاصة على أيام عز الثقافة والأدب الجزائريين في السنوات السبعين. ❊ التواصل بين النص الأدبي والشرائح الإجتماعية لو رمنا التدقيق في المسألة لقلنا بأن هناك علاقة جدلية بين القراءة وبين النقد،فما دام النص الأدبي يستهلك ويقرأ ما زال هناك نقد.لكن ما يجب التركيز عليه في هذه العجالة هو أن هناك نقد تذوقي(ذاتي) و هناك نقد أكاديمي (علمي/منهجي)، والنقد التذوقي يحتاج إلى فضاءات أكثر تحررا من بعض القيود التي تفرضها المناهج العلمية لتسهيل عملية التواصل بين النص الأدبي و بين الشرائع الاجتماعية ذات المقروئية الواسعة، ولقد اتفق أهل الاختصاص على أن أهم وسيلة لذلك التواصل تتجسد في الجرائد والمجلات وسائل الإعلام بجميع أحجامها من سينما وتلفزيون وإذاعة، وكذا وسط النوادي الأدبي وضمن الحلقات الفكرية والأدبية، وغيرها من حرقات التواصل التي قد تتوافر عليها بعض الدول والأمم ولا تفتقر إليها دول وأمم أخرى. ولقد بينت الإحصائيات و الدراسات المرتبطة بالحقل أن هذه الوسائل تساهم بقوة في تشييد ذلك التواصل، في العصر الحالي، بين القارئ/ المتلقي وتفعيل أداء ونوعية هذه القراءة وبين التعريف بالنص الأدبي وتسويقه، حين تنبني استراتيجية هذه الوسائل وتتكثف حول مسائل تتعلق وترتبط بالنص وبالقارئ بغية إنجاز هامش يدفع و يغري بتكثيف القراءة ويقدم افكارا ورؤى تعرف بنص أدبي ما أو تدارس تجلياته الفنية و الجمالية. وهذه التقاليد الأدبية والفكرية مع الأسف أصبحت مفقودة عندنا الآن في الجزائر، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك إجحافا في حق العملية الفنية برمتها و تهميشا مقصودا للأدب وللنقد معا حين باتت المؤسسات والفضاءات المتخصصة في الاشتغال على حقل الأدب والنقد لا تضع في اعتبارها توسيع دائرة القراءة المتبوعة بتقديم رأي أو فكرة تساهم في تقييم وفي إبراز القيم الجمالية لنص أدبي ما. وباتت النشاطات الثقافية التي تنظمها تروم المبتغيات الإشهارية ذات الاستهلاك السريع أو تحوم حول حقول ثقافية تتفاعل معها فئة اجتماعية عامة، لا يشكل الأدب والأدبية أدنى اهتمام لها. ❊ النقد الأكاديمي أما لو تريثنا عند النقد الأكاديمي فسنكتشف، في الجامعات و في التخصصات الأدبية فيها آلافا من المدونات النقدية في شكل رسائل أكاديمية كالدكتورة والماجستير وبحوث التخرج وغيرها من الصيغ الأكاديمة التي يتأهل بها الباحث إلى رتبة علمية جامعية. ولو اجتهدت المؤسسات الإدارية المسؤولة على قطاع التعليم العالي في طبع هذه البحوث وتوزيعها، ولم لا حتى المشاركة بها في المسابقات الوطنية أو الجهوية أو العالمية لنال الجزائر فضل كبير من ذلك. لعل أهم فضل في ذلك تعريف المواطن والمهتمين بالشأن الأدبي على المستوى العالمي بوفرة المقاصد النقدية عندنا، وكذا على المستوى العلمي والأكاديمي الذي باتت تعالج به النصوص الأدبية في الجزائر. أما الفضل الثاني فسنجده في توفير المتون النقدية الضرورية للطلبة وللباحثين الشباب الذي يطرون، في كثير من الأحيان إلى إقتناء بعض المدونات النقدية بالعملة الصعبة، وقد تكون في كثير من ألحيان أقل شأنا من تلك الدراسات المتوفرة عندنا في جامعاتنا. أما الفضل الثالث فسيمكن الجامعة، وربما خزينة الدولة، من الحصول على موارد مالية معتبرة من بيع هذه المدونات النقدية لمؤسسات أو لأشخاص يرتبط اهتمامهم بالحقل الأدبي. ونحن نعرف بأن كل المعارض الدولية التي تقيمها الدول تتبع بعقد صفقات، بين المؤسسات أو بين الأشخاص، تصل أرقامها إلى الملايير وربما لا آتي بشئ معجب إذا قلت بأن الجزائر البلد الوحيد الذي ينظم مثل هذه المعارض دون أن تستفيد منها الدولة والأدباء والنقاد الشيء الكثير، إذا ما وضعنا في الاعتبار ما تستفيد منه الدول المنظمة لمثل هذه المعارض في المعمورة. أقول ذلك مع الإقرار بأن كثيرا من المدونات النقدية ذات الميول نحو المناهج النسقية قد لا تكتسب ذوق القارئ نتيجة لتعقدها وتشابك مرجعياتها المعرفية التي قد لا تتساوق مع ما يتوافر عليه ذوق القارئ العادي الفاقد للمكانة العلمية والمنهجية الجامعية، مما قد يبعث نزرا من النفور ومن السأم في ذائقة القارئ العادي، فيفقد الدرس النقدي حينئذ، وظيفته التواصلية بين جمالية النص وبين ذائقة المتلقي/القارئ غير الأكاديمي و الواسع الانتشار. وفي الأخير أتمنى، من صميم القلب، أن تكون هذه المبادرة من جريدة الجمهورية التي عودتنا، بين الفينة و الأخرى، على إيقاظ الرقود وعلى خلق وصنع حالات وعلى الدفع بملفات ثقافية ذات وزن ثقيل ومتميز على الساحة الوطنية وحتى على الساحتين الإقيلمية والعربية إلى النقاش وإلى تشكيل خط ثقافي وفكري وأدبي ناجع في هذه المحافل. والله أسأل، لنا لكم التوفيق والسداد