لولا القراءة لما كتب احد كلمة ولولا القراءة لما وجدت الكتب ولما كانت الجرائد والمجلات ولما اخترعت الانترنت .. ومع ذلك نحب أن نكتب عن الكتابة ونسلط اهتمامنا عليها غافلين عن جانبها الآخر القراءة .. وكلنا يعلم أن الكاتب ما كان ليكون كاتبا لولم يكن قارئا .. فالقراء بالنسبة له الزاد والمعين الذي يتفاعل معه ويستلهم منه ويتماهى معه .. ومهما كان صنف القارئ فإن عملية قراءة أي نص إبداعي تتحكم فيها مستويات وأذواق وأمزجة ونزعات وأهداف واتجاهات وانشغالات من يقوم بها .. ولكل قارئ أهدافه من القراءة إما للتسلية وتزجية الوقت أو للتحصيل الثقافي أو بحثا عن معلومات بعينها أو عن شيء يعرفه أو لا يعرفه شيء يضيف إلى فكره ورصيده ،وثمة من يقرأ من باب الفضول أو مجاملة لصاحب النص .. ولكل يعقوب غايته من قراءة نص ما .. من خلال هذا الملف الاستطلاعي أردنا أن نعرف كيف يقرأ المبدع لمبدع مثله ؟ وماذا يحدث لنص إبداعي إذا ما سقط بين يدي مبدع قارئ ؟ هل يمجده أم يجلده ؟ هذه آرء بعض المبدعين في ذلك .. كيف أقرأ ؟. فعل القراءة عموما ليس عملية ألية على الأقل بالنسبة لي و لا تستبق على ذاتي أي تهيؤات أو شروط معينة بل هو كأي رد فعل غريزي ينتفض أمام خشخشة الورق المتماهي في سواد الكتابة و بتالي تغيب ''الطريقة'' و لا أفهم لها معنى أمام غريزية القراءة كفعل طبيعي و عندما أتكلم عن القراءة بتلكم الصفة لا يعني أنني قارئ رديء بل أنا أتحدث عن القراءة مجردة من أية تهيؤات أو تهمة أو تعال. ليست بقراءة فوضوية أو همجية أو ما يطلق عليه '' النهم للقراءة'' فالوقت و المعيش اليومي ألغى هذا الخيار بصورة تعسفية أمام الغول الرقمي الذي يسمى ''الوقت'' و بتالي إنحصرت القراءة لما يهم الشخص أكثر في جانب من جوانب شخصيته المهنية ثم من موقعه في المجتمع إنطلاقا من حرفته أكثر فأكثر لتحسين آداءه فيها ربما لأنها تتطلب منه مهارات و معارف متخصصة ليمضي بشخصه قدما ،و هذا شيء جميل لكنه للأسف نادر ثم أن القراءة في حد ذاتها اصبحت ممارسة نادرة . في رأي أن الطريقة الواجب إتباعها قبل ممارسة القراءة هي البحث عن جواب لسؤال:ماذا سأضيف لرصيدي المعرفي بعد قراءة هذا الكتاب؟ مع أنه هناك أكثر من سؤال لتأسيس فعل القراءة في ذواتنا القاحلة. اما عما اذا كانت لي طقوس لقراءة رواية او قصة أوديوان شعرفعندما تخترق حرمة السؤال عبارة '' طقوس'' يعني أن هناك سحرا ما يطبخ في الآفاق الجهنمية.ثم أليس للقراءة فعل السحر. أوقاتها الموافقة للتقويم القمري،مواقع النجوم،طلاسم النص المفتوح،طي السجل للكتاب،البوح المسموم /روائح الصندل و الكسبر المحترق في فضاء الغرفة الموحشة،مزيج السكر بالشاي المنعنع وفرش رثيث،أجلس في زاوية التخفي مدثر بعباءة القراءة أمامي دواتي وسمق من صوف الإبل لا يبيد أتخذ من البردي مطيتي لخط ملاحظاتي أو أية عبارة تعجبني تلهمني .. تلهب السحر بين تلافيفي ربما يحظر البكاء ربما يأتي الضحك، التأثر الشديد و هكذا ينكمش الوقت شيئا فشيئا فأنهض لآحضر كوب شاي آخر .هذه المرة من أقاصي الأسكرام فالمتعة أخذت حيزا من الغرفة الضيقة ... ضاقت و من شدة الضيق إمتدت صحراء أخرى. وانا ارى انه ليس بالضرورة أن كل النصوص قابلة للقراءة بطبيعتها. فأمام إنتعاش عجلة الطبع في الجزائر صارت المكتبات العمومية و الخاصة لا تسع رفوفها الضئيلة حجم الكتب المطبوعة.لكن بالمقابل هل يوجد معيار معتمد للقول أن هذا نص جيد و ذاك نص رديء؟ و كنت كتبت منذ أسابيع في إحدى الملاحق الأدبية في مختصر القول ''أن النص الذي يأتي لكي لا يقول،نص ميت و لا جدوى منه، نص مفرغ إلا من صاحبه الذي أطلق عنان يراعه في سماء الكتابة العقيمة يمدح الفراغ أو يمجد ذاته لذلك فهو نص ميت لا محالة و لا غرابة في القول إن إمتدت هذه ''المحنة'' إلى عمق بنية الخطاب الأدبي ''فتلك كارثة و بتالي ''أقول أنه حان الوقت لفرض رقابة صارمة أمام غزارة النصوص الأدبية المنتجة و المتاحة أمام عجلات ألة الطبع و قبل وصولها إلى القارئ و هو اقل شيء يمكن فعله من باب درء الرداءة عن النص كقيمة،و حفاظا على معنويات القارئ/المتلقي فليس كل نص قابل للقراءة و الإستعاب فهناك نصوص قد تسمم القارئ و تقتله و هي جريمة ما بعدها جريمة.'' القراءة التلذذ أزعم أن الشيء الوحيد الذي أمارسه أثناء القراءة هو '' التلذذ'' بالقراءة كفعل. فالقراءة كممارسة تحرض ذواتنا على ممارسة موازية هي '' التمتع'' و المتابعة لا سيما وأن كان الذي بين ايدينا حكاية في رواية أو قصص قصيرة لا تنتهي أو حتى شعرا ذائبا كسبيكة من ذهب لا شيء غير المتعة إلا أن هناك بعض القراءات المتخصصة التي تحرضنا على الوقوف على بعض العبارات و التراكيب لحاجة في نفوسنا '' المبدعة'' هذا الذي قد نسميه ''تأثرا'' بالمفهوم الميتافيزيقي تلك العبارات أو التراكيب ستلقي بظلالها في يوم من الأيام في إبداع القارئ المبدع بطريقة لاشعورية فمرة كتب الشاعر الإسباني فديريكو غارسيا لوركا قصيدته الشهيرة الموسومة '' السارية في النوم'' التي يقول في مطلعها :''خضراء،أحبك خضراء/خضراء الريح،خضراء الأغصان /الحصان في الجبل/و القارب فوق الماء... هذه القصيدة التي أصبحت كلماتها تتداول كالخبز اليومي بين الإسبانيين و كادت تحل مكان النشيد الوطني الإسباني أقول عرض لوركا القصيدة على شقيقه الأكبرليقرأها فتعجب الأخير و أخبره أن مطلعها ليس غريب عنه ثم أردف مستذكرا :''اليست هي نفس الكلمات التي كان يرددها ذاك البغّال الذي إكتريناه أثناء رحلتنا عبر جبال سيرانيفادا'' قبل ستة أشهر. فأجابه لوركا و كان قد نسي تماما أمر ذلك البغال بالفعل إنها نفس الكلمات. الابداع والقراءة فعلان متلازمان لا يمكن أن ينوجد إبداع في غياب فعل القراءة ،الفعلان متلازمان.القراءة تشحذ فعل الإبداع.تلك النار المقدسة التي تسوى بها السيوف المسلولة ضد الرداءة هي القراءة.من لطائف الأفعال توصل أخبار الغائبين بحال الحاضرين تتكشف على سيقان اللغة بتموجاتها بسحر القول و تقنيات البوح الرقمي في عصر الأزرار الموصولة بأوهن البيوت ...هي القراءة. كشاعر أراهن على الحجر لما يقرأ ما كتبت. اليس من الحجر ما تفجر منه الماء فكل القراءات تفيدني .قراءة المبدع تتكشف لي عن نقاط الإبداع و التميز فيما كتبت بما لدى القارئ المبدع من فطنة و ذوق و محمول نقدي متخف أما القارئ العادي فهو بوصلتي و دليلي في هدايتي الى مدى توفيقي في توصيل فكرتي الى ذاته البعيدة الى خدش أعاميقه فيقومني في معرفتي منه مدى وصولي الى بئر أحاسيسه،عوطفه،ألمه،فرحه... كم من متر وصلتها عند نزولي الى العمق الإنساني بمحمولاته المتشابكة؟ الشاعر والناقد عبد الله شطاح .. القارئ النموذجي وحده يهم الكاتب القراءة عملية معقدة عملية القراءة الأدبية تتم عبر ثلاثة مستويات حددتها نظرية القراءة لكل من روبار ياؤس وأيزر وتتعلق أساسا بالتلقي وتحديد أفقه أولا لدى القارئ العادي انطلاقا من أفق الانتظار والذي يبدأ عادة من عنوان النص رواية كان أم قصة أم شعرا أم قصة .. أفق العنوان يؤدي إلى أفق الانتظار، أما القارئ الخبير أو القارئ النخبوي أو ما يسمى بالقارئ النموذجي أو المثالي فهو الذي يتواصل مع الكاتب من خلال النص أي الرسالة التي يتلقاها المرسل إليه عبر المرسل ، وتتطلب قراءة النص بوصفها عملية معقدة مستوى معين حتى يتمكن القارئ من فك شفرات النص والتعاطي مع مضمونه بصفة فاعلة وإيجابية ، أما بالنسبة للقارئ المحترف '' الناقد'' الذي يتتبع الانجازات الإبداعية فإن قراءته للنصوص قراءات .. وبوصفي كناقد أنتمي إلى الفئة المذكورة علي أن اتبع الطقوس التعارف عليها أي أنني أقرا النص على مستويات عدة . اكتشاف اللعبة السردية وأول ما يشدني فيه كقارئ محترف الجانب اللغوي ثم الآداء السردي لأركز بعدها على العمق الفكري للنص وهذه العناصر الثلاثة هي قوام عملية القراءة .. على أن لكل ناقد طريقته وطقوسه في قراءة النصوص الأدبية الإبداعية .. بالنسبة لي أعمد لأن تكون قراءتي الأولية للنص قراءة استكشافية أي أن أحاول قدر الإمكان أن أستخلص منه عنصر الإمتاع والتلذذ بعذوبة الحبكة وجماليات الحكي بعدها أنتقل إلى مرحلة ثانية أقرأ فيها النص بعين الناقد المتخصص في المجال وأشرع في تشريحه محاولا تحديد خيوطه الأساسية لأدخل بعد ذلك في مساءلة مع الكاتب ،وقد أضع نفسي مكانه حتى يتسنى لي اقتحام لعبته الإبداعية وما إن أبلغ المستوى الثالث لفعل القراءة الأدبية حتى أكتشف اللعبة السردية وألم بمجمل خيوطها وهنا أتمكن من احتواء النص والتعاطي معه بصفة حيادية . كل هذا العناصر لابد أن تتوفر في القارئ النموذجي وهو الذي يهم الكاتب ., وهنا يجب أن نعرف أن القارئ أنواع ومستويات هناك القارئ النموذجي والحيادي وهو الناقد الذي يبني حكمه على منهجية علمية ونظرة أكاديمية صارمة وثمة النقد الانطباعي وهو سائد منذ بدايات الخطاب النقدي الذي ظهر في أروربا مع بدايات القرن ال19 ويعتمد هذا النوع من النقد على الذاتية ما جعله بلا أهمية ولا تأثير ولا يقول به ميزان الخطاب النقدي. حيادية القراءة وكل الحظوة والأهمية هي للنقد الأكاديمي الذي يحتكم المنهج ويشتغل على إقصاء الذات وفق قواعد صارمة مستعملا أدوات ومنهجيات ضامنة لحيادية الحكم على النص المقروء.. ومثل هذا النوع من النقد لازال ضحلا في الساحة الثقافية عندنا وان وجد فهو لا يتخطى عتبة مخابر الجامعات ما جعل الحقل الإبداعي فضاء يسرح فيه ويمرح كل من ينصب نفسه ناقدا أو يتحول من كاتب إلى ناقد .. وكثيرا ما ينجر عن هذا النوع من النقد عداوة بين المبدع والناقد بسبب موقف إيديولوجي أو خلفية عدائية تغذيها مشاعر الغيرة والحسد بين الطرفين . و يبقى الحكم المعياري الذي يصدر عن ناقد له القدرة على التواصل مع النص بتوخي منهج نقدي صارم مع الإقصاء الكلي لذاتيته كمتلقي . محمد الأمين سعيدي أقبل على النص بريئا كطفل ر اعد نفسي من المقتنعين بان الإبداع هو هذه الفوضى التي تؤسس لنظامها الخاص، أو هو ذلك الكون الذي يخضع لمنطق آخر ولتفكير مغاير، ومن ثمّة لا حاجة لي حتى أنتهج طرقا بعينها للقراءة، وذلك لكي لا أحدد نفسي فأظلم النص، فلا أُقبِلُ على تلك النص إلا بريئا كطفل وخطيرا كقلم، وبين هذا وذاك أستلذّ بالقراءة، وبقراءة القراءة، أُبحر على ظهر المتعة في بحار التأويل الواسعة جدا جدا.. وشخصيا أمارس عملية القراءة بلا طقوس معينة إلا الاكتشاف والتجربة، أنا أعتبر كلَّ قراءة لنص من النصوص، لرواية، لديوان، هي رحلة البحث عن الدلالة، وتجربة جديدة أعرف من خلالها نفس كاتب أو شاعر كان من المحتمل جدا أنْ يكون أنا أو أكون هو.. وأرى أن كل نص يستحقّ القراءة بجدارة، إلا ذاك النص ''المتشدِّق'' الذي كتبه صاحبه وهو يخلو من الصدق ويفتقر إلى شعلة الإبداع، أقصد النص الذي تلده النظرية قبل أنْ تخلقه التجربة الشعورية الحادة، إنّ مثل هذه النصوص هو الذي بات يُحتفى به، لكنه في آخر الأمر يظلُّ في نظري نصا كتبه ناقد أو فيلسوف ولم يكتبْه مبدع على الإطلاق. القراءة متعة وتحليق القراءة تختلف طبعا من كتابٍ إلى غيره، ومن حالة نفسية إلى أخرى، شخصيا إذا قرأتُ الشعر فإني لا أفعل شيئا إلا التحليق مع القصيدة في عليائها، وحتى في قراءة الرواية والقصة فإنَّ الرحيل مع كل أولئك الشخوص هو متعة لا تفوَّتُ أبدا، هذا إذا كان غرض القراءة هو الاستمتاع، أما لو كان الغرض هو الدراسة والنقد فهذا أمر مختلف، لأنني سأمرّ من مرحلة التمتّع بالنص إلى مرحلة أخرى تحضر فيها ورقة وقلم وفكر ووعي، بل وقدرة هائلة على تصيّد مواطن الجمال في النص قصد إبرازها وإحاطتها بما بها يليق. أراهن على القارئ العادي إنّ الشاعر ليس في وقتنا الحالي أحوج إلى شيء مثل القراءة، وأقصد بهذه الأخيرة الرؤية المتفحصة لما يكتب من إبداعات، ولما كُتِبَ من نصوص سواءً أكانتْ قديمة أو حديثة، لأنّ منهل الشعر والإبداع الصافي هو الاطلاع وافضل ان يكون قارئي . مبدعا مثلي، ولكني مع هذا أراهن على القارئ العاديّ، ذاك الذي يقتطع النقود من مصروف عائلته حتى يقتني كتابا، لأنه الأصدق على الإطلاق. ورغم هذا وذاك تبقى أزمة المقروئية جريمة نتشارك فيها جميعا حتى ولو تنصّل كل منا ونسب إلى نفسه البراءة.