تداعت إلى ذهني حزمة من الأفكار ملبدة بالهموم بعد أن سدت مسامعي أتربة جرفتها سيول الصفاقة و البذاءة و السفاهة و أنا أتجول في أحد الأسواق الشعبية ،مقابلة و مطابقة و مبالغة وتورية و جناس و سجع و كل فنون علم البديع و لكن ليس في النثر أو الزجل أو الشعر الفصيح،و ليس مجرد مصالح تعاقديةلتي يشيب لهولها رؤوس الرضع في مجتمعنا الآن خلقة و الأنسنة .بيه و إنما مخيال جماعي في السب و الشتم و الفحش يتطاير كحمم من أفواه تافهين فيحرق الحياء و يلتهم الآداب و يتحرش بمن بقي في مخبرهم جذوة أنفة تنتظر الاشتعال مرة أخرى فإذا ما انتفضت الأخلاق و اشرأبت القيم فالرد يكون بهيميا بشراسة و فظاعة قوانين الأدغال و الغاب . و من بين الأفكار التي زاحمتني السير هل تحول مجتمعنا إلى كتاب قديم بأوراق مصفرة و عنوان يقفز إلى الأعين يصرخ بأعلى صوت "تبا للمسؤولية" علما أن المسؤولية قبل كل شيء صفة فردية تنفذ بمجهود شخصي ولها تفريعات و مشتقات حسب النشاط و الموقع و تخضع لمساءلة القانون بتطبيق عام و مجرد لضبط اتجاه المركب الذي تتقاذفه العواصف ما دام المرفأ بعيدا و مادامت الحرية مكتوبة بحبر شفاف بين كلمتين مرسومتين بسواد قاتم وهما الفوضى و الاستبداد، أم هل يا ترى لم يكن المتنبي شيطان شعر و فقط بل سبق زمانه و اطلع على علم الجينات حينما نصح بشراء العبد و العصا معه مثبتا بذلك النظرية البيولوجية التي اكتشفها دعاة الذل و الهوان و أنصار القمع و الحرمان في مطبنا هذا و مفادها أن الشفرة الجينية لمعشر العرب تحتوي على فصيلين حيويين لا ثالث لهما الفوضى و الاستبداد و أي محاولة لإضافة مكون ثالث كالحرية المسؤولة أو السلوك المتحضر الذي يضمن هامشا من التحرر مثلا هو موت للجسم بأكمله لأن فيه رفض للقضاء و القدر و خروج عن نواميس الكون التي وزعت القيم الانسانية كما وزعت الغاز و البترول ، لكن الباحث في حفريات الشعوب و لنأخذ الفرنجة كنموذج يجد أن مصطلحات مثل حرية التعبير أو المساواة أو حقوق الإنسان لم تكن جبلة خاصة بهؤلاء أو مكتسبات أزلية امتلكوها بالتقادم بل خضعوا لعملية ترويض و تدجين دامت ردحا من الزمان بحلقات عنف و شلالات دماء إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه . ثم لماذا أصدع رأسي بتاريخ غيري و ذاكرتي العربية حافلة بالمحطات و بالمأثورات حيث سؤحلق بعيدا إلى غاية عنترة ولن استشهد بإحدى قصائده هياما و شغفا بمحبوبته عبلة و لكن بالحوار الحضاري الأخاذ الذي دار بينه و بين أبيه عمرو بن شداد حينما قال له هذا الأخير "كرَ و أنت حر" ليستنهض همة ابنه العبد الذي رفض الخروج للحرب دفاعا عن قبيلة سلبته حريته و تريد منه أن يقاتل دفاعا عن حريتها فما كان من فارس عبس إلا أن رفض ماء الحياة بذلة و استسقى بالعز كأس الحنظل فماء الحياة بذلة كجهنم و جهنم بالعز أطيب منزل ، كلام من ذهب ازداد سموا و رفعة بما أضافته المنظومة الإسلامية من قيم إنسانية غاية في المثالية الممزوجة بالواقعية ، و عليه فإن العملية المنهجية للتحريف و التزييف و التضخيم و التهميش حسب غايات ومتطلبات الوضع القائم التي خضع لها الموروث السياسي و الثقافي و الاجتماعي اقتلعت مجتمعنا من جذوره فأضحى مطموس الهوية ،و معلوم أن الإنسان الذي لا هوية له عاجز عن الإبداع في كل المجالات لأنه ينظر إلى العالم بمنظار الآخرين و يصبح عقله بين شفتيه يجتر ما استرقته أذناه و تضبط سلوكه مرجعية مادية نسبية متغيرة تفتقر إلى أدنى مستويات الأخلاق و الإنسانية و مؤسسة على مصالح تعاقدية مؤقتة و هذا ما قد يفسر المآسي التي يشيب لهولها الرضع في مجتمعنا الآن و الذي لن يلجم إلا بحبل من القانون يلف على عنق المتبوع قبل التابع بعدالة و شفافية و نزاهة بلا تقاليد استبداد تفرضه الحاجة لردع المتآمرين و لا مغامرات فوضى محسومة النتائج مسبقا .