* والي الجزائر يصدر تعليمات الى التجار للإبقاء على المحلات مفتوحة الى وقت متقدّم من اللّيل تتسارع خطى المواطنين للدخول إلى بيوتهم ... الساعة السادسة مساء ... كل من بقي في غمرة ليل العاصمة ... سيجد نفسه في ظلمة حالكة تغيب فيها أضواء قاعات الشاي ومحلات البيتزا والفصول الأربعة التي تصنع الفرجة عند منتصف النهار... وإن كان السبب عند البعض هو غياب الامن والنقل ... فإن الكثير ممن التقينا بهم أكّدوا أن العاصميين تعوّدوا على روتين معيّن سببه عشرية سوداء أطفأت ضوء العاصمة وأدخلتها في غياهب جب عميق تنتظر من يمسك بيدها ويخرجها منه ... ليتحوّل ليل العاصمة إلى سجن كبير ... أسواره الظلام وأبوابه السكون والخوف وشخوصه بعضهم نيام على "الكرطون" في زوايا حالكة الظلام والبعض الآخر يسألون قطعة خبز، صانعين بذلك مشاهد البؤس المدقع .. العاصمة تنام باكرا كالابن المطيع، تشبيه بعيدا كل البعد عن واقع كبرى العواصم في الدول العربية كي لا نذهب بعيدا ونشبّه أنفسنا بالعواصم الأوروبية أو الغربية بصفة عامة، عبارة "العاصمة تنام باكرا" كثيرا ما تردّدت على لسان المواطن العادي، الصحفيون من خلال أعمالهم، المسؤولون على أعلى مستوى، ولكن دون البحث في الأسباب الحقيقية لهذا السبات العميق الذي دخلت فيه العاصمة وتنتظر من يوقظها منه ... سبات أريد لها أو أرادته بسبب عادات كرستها السنون ... فرضتها عشريّة دمويّة مرّت بها كغيرها من ولايات الجزائر ... ورغم الاستقرار الأمني والطمأنينة التي عادت مجدّدا إلا أنّ العاصمة تعوّدت على روتين يومي ينتهي في أغلب الأحيان عند أصحاب المحلّات عند الخامسة مساء شتاء، و تصل غالبا عند حدود العاشرة ليلا ، صيفا، إذا استثنينا بعض المراكز التجارية التي تسمي نفسها بالكبيرة والتي تجد فيها العائلات ملاذا لها ولأبنائها للتسوّق أو أكل المرطبات أو الوجبات السريعة والتي تتمركز بصفة عامة على هوامش مركز العاصمة كالمركز التجاري "باب الزوار" أو "أرديس" بالواجهة الكبرى للصابلات أو "غالاكسي" بعين النعجة والتي يجد الزائر عليها طوقا أمنيا تابع لذات المحلات بغرض حفظ أمن وممتلكات الزبائن وأصحاب المراكز على حدّ سواء ... وهي غالبا ما يتردّد عليها أصحاب الدّخل العالي بسبب غلاء المواد المعروضة للبيع من جهة والألعاب الموجّهة للأطفال وحتى الوجبات السريعة، ليجد المواطن البسيط نفسه بين سندان غلاء "مقنن" بهذه المراكز التجارية ومطرقة الدخول في سبات العاصمة التي وحتى وإن نامت مبكّرا فإنها تستيقظ متأخّرة لأن الداخل إليها باكرا يجد كذلك كل المحلات تقريبا مغلقة لولا المقاهي التي تفتح مع بزوغ أولى خيوط الفجر لاستقبال العمال صباحا ... * أضواء من "الغولف" بأعالي العاصمة، وبالضبط بالمدنية أو "الغولف" كما يحلو للبعض تسميتها، تراءت لنا بعض الأضواء وحين اقتربنا، كانت مقهى ومحل للفصول الاربعة مفتوحا والساعة تشير إلى الثامنة ليلا، دخلنا المقهى الذي كان شبه فارغ، استقبلنا صاحب المقهى "ب. إ"، وقال لنا أنه الوحيد الذي يغلق بعد الثامنة ليلا في المنطقة لسبب وحيد أنه يسكن بالجوار كذلك لديه إخوة يساعدونه في ادارة المقهى وأصحاب محلات مجاورة، قبل أن يضيف، " نحن معروفون بالمكان أبا عن جد ومركز الشرطة يتواجد على بعد بعض الأمتار فقط"، وهو ما يخلق جو من الطمأنينة لدى زوار المقهى حسبه. على بعد بضع كيلوميترات، يقف "مقام الشهيد" شامخا ورغم الأضواء التي تنير المكان إلا أن كل محلاته مغلقة ليلا ... وما إن تبدأ التكبيرات الأولى لصلاة المغرب في العاصمة حتى تقل الحركة عبر أحيائها وأزقّتها وحتى بكبرى الشوارع كشارع ديدوش مراد، ميسونيي، أودان، البريد المركزي، شارع العربي بن مهيدي، ساحة الشهداء، حسيبة بن بوعلي ... ساحة أول مايّ، شارع الشهداء ... وغيرها من الشوارع التي لا يمكن لأي زائر أجنبي كان أو من أبناء هذا الوطن أن يأتي إلى العاصمة دون المرور عبرها، حيث تسمع تتابع صوت أبواب وستائر المحلات الحديدية وهي تنزل وتغلق الواحدة تلوى الأخرى، فحيثما ولّيت وجهك، في محطات الحافلات والترامواي والمترو، فثمّة حشود بشرية أشبه ما تكون بخلايا النحل تسارع الخطى للالتحاق ببيوتها... وعلى عكس كل عواصم العالم "تنام" العاصمة الجزائرية قبل غيرها، وتعوّدت المحلات التجاريّة على روتين يومي تعمل به كغيرها من المؤسسات العمومية، حيث تسدل ستائرها عند الخامسة وهو ما يتزامن مع صلاة المغرب تقريبا في أيّام الشتاء، وإذا كان الأمر ينطبق على محلات بيع الألبسة والحلاقة والأحذية ومحلات بيع المجوهرات، فإنه يمتد إلى حد المقاهي والمطاعم التي يفترض أن تبقى مفتوحة. * قاعات "سينما والمسرح شبه فارغة وتوقف قبل التاسعة ليلا" التجول ليلا في العاصمة يؤكد بأن الحياة تتوقف ليس بالنسبة للمحلات التجارية فحسب، بل حتى أن قاعات السينما والعرض القليلة الموجودة، تنهي برامجها في ساعة مبكرة من الليل لا تتعدى على أقصى حد التاسعة ليلا، ومن سينما الجزائر إلى قاعة الموقار مرورا بالأطلس، كازينو والثقافة، المنطق نفسه يطبّق على دُور المسرح، التي تُسدل ستائرها على الساعة التاسعة ليلا. المشهد نفسه، فلا يستطيع المواطن الاستمتاع بمشاهدة فيلم أو عرض مسرحي أو كوريغرافيا محليّة كانت أو عربية أو أجنبية، ما عدا بعض الاستثناءات والتي تبرز خلال تنظيم مهرجانات أو ملتقيات من طرف وزارة الثقافة وحتى هذه يستثنى منها المواطن على اعتبار أن الدخول يكون لأصحاب الدعوات دون غيرهم، الكثير ممن التقينا بهم بالعاصمة، تمنّوا عودة ليالي السمر التي كانت تعرفها البهجة زمانا وأفلام "الأكشن" والأفلام الوطنية وحتى الهنديّة التي كانت تصنع الفرجة في السبعينيات والثمانينيات. * "الكلونديستان يفرض قانونه" يطلق عليهم البعض اسم "المغامرون" أو "المهابل"، وهم الذين يتحدّون الوضع، ويفضلون المغامرة والبقاء في العاصمة إلى ما بعد السادسة مساء، لأن هذا النوع من المغامرون يقابلون وجها لوجه أصحاب سيارات الاجرة أو "الكلونديستان"، الذين يفرضون منطقهم من خلال ابتزاز جيوب المواطنين، لتصبح "الكورسة" التي كانت صباحا في حدود 200 دج مثلا إذا تنقل أحدهم من العاصمة إلى عين بنيان التي تبعد بحوالي 12 كلم عن المركز، تصبح في حدود 800 إلى ألف دينار جزائري، وهذا ما وقفنا عليه فعلا، بسبب غياب حافلات النقل الحضري وشبه الحضري في العديد من الاتجاهات، وهي المعاناة التي يتقاسمها المواطنون الذين يزاولون عملهم مساء، حيث أكد لنا "محمد.خ"، أنه يضطر في كثير من الأحيان دفع مبالغ مالية ضخمة مقابل الوصول إلى بيته بسبب غياب وسائل النقل، فإذا كان هذا حال المواطنين الذين يعملون ليلا، فكيف يغامر مواطن في كامل قواه العقلية بالدخول إلى العاصمة وهو لا يمتلك سيارة فما بالك التجوّل بها ... هذا ضرب من الجنون ... * السياحة نائمة ولا تسوّق صورتها للخارج كيف نتحدّث عن السياحة، في بلد تنام عاصمته على الساعة السابعة مساء.. لتبقى وسيلة الترفيه والتسلية الوحيدة عند العائلات هذه هي التلفزيون، وأنا أتحدّث عن السياحة وتسويق صورة العاصمة إلى الخارج، راودتني صور ولقطات للفيلم الجزائري الشهير "عائلة كي الناس" أو "سوق أمّك يفتح فالليل"، وهو فيلم صوّرت لقطاته في بداية الثمانينيات تقريبا ...، يصوّر في أحد مشاهده العائلة الجزائرية التي ما إن اقتنت سيّارة جديدة تختار أن تخرج ليلا وإلى أين، إلى مقام الشّهيد أحد رموز الجزائر المستقلّة، صور لمقام الشهيد مفتوح لزوّاره بمقاهيه وأضوائه وأرجائه، ... أين مقام الشهيد من كل هذا، أين السيّدة الإفريقية، التي تتراءى للجميع في أعالي باب الواد دون أن يجرؤ أحد للصعود إليها ...، صور أريد لها أن تندثر وأن تغوصّ في السبات إلى موعد آخر ... تحوّل ليل العاصمة إلى سجن كبير ... أسواره الظلام وأبوابه الصمت والخوف وشخوصه بعضهم نيام والبعض الآخر يتسوّلون قطعة خبز... * مشروع يجهض في المهد رغم التعليمات الصارمة التي وجهها الوزير الأول عبد المالك سلال للمسؤولين المحليين، في لقاء جمعه مع ولاة الجمهورية خلال الصائفة الماضية تحت أعين مسؤولهم المباشر، وزير الداخلية والجماعات المحلية آنذاك، دحو ولد قابلية، بضرورة إعادة الحياة للعاصمة ليلا، من خلال مشروع ذهب في مهبّ الريح وهو مشروع "العاصمة لا تنام" لوضع حد للسبات الذي يميزها منذ سنوات، وكانت البداية من بلدية الجزائر الوسطى، التي قامت بعد تسجيل التجار الراغبين في فتح محلاتهم إلى ساعات متأخرة، بوضع دفتر شروط بغرض تغيير واجهات محلاتهم، وإزالة كل ما من شأنه تشويه المنظر العام لها لإعادة تهيئة الشوارع الكبرى، وشملت الحملة المقاهي والمحلات لتشجيع أصحابها على فتح محلاتهم إلى غاية ساعات متأخرة من الليل، بعد أن ربطت مختلف العمارات بأجهزة خاصة بشبكات الإنترنت عن بعد "الويفي"، بهدف تشجيع المواطنين على التجول في أحيائها وكذلك التجار بفتح المحلات لساعات متأخرة من الليل، في خطوة تهدف إلى استحداث الحركية في الفترة الليلية وكسر القاعدة التي تقول إن العاصمة تنام باكرا. لتعود العاصمة إلى سباتها فور انتهاء الشهر الكريم وعيد الفطر المبارك، والسبب هو غياب ثقافة التجوّل ليلا عند البعض بالإضافة إلى غياب وسائل النقل، حيث أكد البعض ممن تحدّثت إليهم "الجمهورية" أن من قام بالتفكير في "مشروع الجزائر لا تنام" لم يرافق المشروع بالوسائل الضرورية، كالنقل والامن والإنارة وغيرها من الضروريات التي تدخل الطمأنينة في نفوس المواطنين وتحفّزهم على التجوّل والخروج والتمتّع بالفرجة والترويح عن النفس، لتبقى العاصمة نائمة إلى إشعار آخر...