إن القارئ في كتاب "مقاربات نقدية" لصاحبه الأستاذ الجيلاني شرادة، يلمس الملمح النقدي الصادر عن قناعة فكرية وأدبية، يحاول المؤلف أن يصوغها وفق طريقته في الرؤية النقدية، كي يقول ما يعتقد أنه قادر على تحريك ركود الوسط النقدي، من باب التشاركية وليس الإنفراد بالمشهد، ولعل عتبة الإهداء تعكس شيئا من هذا، فهو يتقدّم بعمله لجيل السبعينيات: "جيل الأساتذة الكبار، بعلمهم وعملهم وتعاملهم وتعاونهم.."، دون أن ينسى تلامذتهم، وهو السلوك الذي ينمّ عن شعور عميق بأنّ الناقد لا يمكن أن ينطلق من ذاته دون مرجعيات، فمرجعيته من سبقوه، وحواريته مع مجايليه، وذاك مطلق الإيمان بالمشاركة في إنجاز الفعل النقدي المنشود، وبهذا الصّدد قال "بول فاليري" في كتابه "أشياء مرئية": "لا شيء أدعى إلى إظهار أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذى بآراء الآخرين فما الليث إلا عدّة خراف مهضومة". يصدر الجيلاني شرادة في نقديته عن إحساس بالنص أو بالرّؤية النقدية التي يتبناها، وما يضفي على نشاطه النقدي مصداقية، هو ما ينتظره من القارئ من مشاركة في تقييم عمله النقدي ، حيث يقول: ".. وإن كنا لا ندّعي التحكم الكامل في هذه الصناعة، إلا أننا نسعى إلى أن نضع رؤيتنا النقدية بين يدي القارئ الكريم، والذي ننتظر منه تقييمه، وتوجيهاته لإنجاح هذه التجربة لاحقا" ص5/6، فالناقد يرنو إلى أن تستمر رغبته الإنتاجية التي تأخذ صقيلتها من تفاعل القارئ، وهو ما يجعل التّجربة النقدية تضع في حسبانها القارئ الجدلي الذي لا يربّت على أفكار الناقد بقدر ما يماحكها ويستفز مناطق الحيوية فيها، إلا أن مفهوم التقييم، يبدو لي أنه لا يستقيم مع العملية النقدية، لأنها حركة تُوازي إنتاجية النص، وبالتالي فهي النشاط الحواري الذي يجالس ويؤانس ويدارس النص، فالقارئ لا يقيّم، لأن كل عمل مداره النقص، وبالتالي فحركة القراءة المقابلة تكون حوارية أكثر منها تقييمية، وبالتالي يكون الجيلالي شرادة أكثر صدقا في تقديم عمله النقدي من باب التشارك والتواضع. العمل النقدي يواكب العمل الأدبي... ولأنّ العمل النقدي يواكب العمل الأدبي فإنّ الناقد الجيلاني شرادة حدّد طبيعة هذه المواكبة ب"التّحليل والتّمحيص والغربلة الأدبية" ص5، وهو ما يفتح "مقاربات نقدية" بشقّيه، وكما حدّدهما النّاقد: "مجموعة من الأفكار والرّؤى التحليلية" ص6. "نوع من القراءات أو الدّراسات الأولية لبعض المواضيع التي تتطلب التّركيز" ص6. قلت ما يفتح "مقاربات نقدية" على نوع من المعالجة الخاصة، التي تحدّد الموضوع ثم تتابعه وتحاصره من حيث كونه مادّة تقع داخل المجال الذي يؤثّث رغبة الناقد في قراءة العمل الأدبي، وبذلك يكون قد ساهم في حل معضلة ما سمّاه الأديب طه حسين في كتابه "خصام ونقد"، "محنة الأدب" وذكر فيه أن القارئ والكاتب كلاهما استسهلا مواد الكتابة والقراءة، "والموضوع الذي يحتاج كاتبه الى أن يدرس فيطيل الدّرس، ويبحث فينعم البحث، عسير على الكاتب والقارئ جميعا"، وبالتالي فالرّغبة وتحديد المواضيع هي المفتاح في إزالة محنة النّقد والأدب. يميّز الجيلاني شرادة بين عمله النّقدي الذي يشمل دراسة "اللغة المستعملة ومصادر قوّتها، مع الإشارة إلى بعض الملامح السوسيولوجية، أو التاريخية، بل حتى النّفسية، والفكرية إذا وجد لها تأثير ما على مرتكزات النص السردي، دون أن نهمل جوانب التأثير الخارجي في ثقافة الكاتب.." ص6/7، يميّز بين هذا والعمل الأدبي باعتباره "ما يبدعه السّارد"، وهو "ثمرة تجاربه، وكذا ثقافته، وقناعاته الفكرية.." ص7، هذا التّمييز يكشف عن خاصّية الحدود التي تفصل العمل الأدبي عن الرّؤية له، حيث القراءة النقدية ليست تلك التي تعيد سرد النص وحدثيته، بقدر ما هي إعادة اكتشاف النص عن طريق معالم إحالية تكمن في "التجربة والثّقافة والقناعة الفكرية" هذه العناصر التي تحرّك عمق الناص وتوجّه كتابته الإبداعية. يعرّف الجيلاني شرادة النقد على أنه "العملية الفنية المواكبة للإبداع" ص9، ثم يحصر وظيفته في "التحليل، الغربلة، التثمين، الإشارة إلى النقائص والبراهين على الأحكام" ص9، وبهذا يحدّد طبيعة العملية النقدية على أنها فنية، أي تخضع لقوانين ومرتكزات جمالية تفيد في الاشتغال على وظائفها، كما أنّه لا يغفل الحديث عن المنهج، ويرى بأنّ المنهج التكاملي، "يمثل أداة تستقي قوّتها من ممارسة نقدية مركبة تجمع بين المعطيات الفنّية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والدّينية وغيرها.."/ص15، ويشير إلى بعض النقاد الذين ساروا على هذا الدّرب ك "سيد قطب، وأحمد كمال زكي، وشوقي ضيف، وجورج طرابيشي". ترميم التراث السّردي... ومن بين الرؤى النقدية المهمة التي يعالجها الناقد الجيلاني شرادة ما يسمّيه "ترميم التراث السّردي"، وتحت هذا العنوان يتساءل حول الكاتب الذي يعود إلى كتاباته الماضية بعد فترة من زمن نشرها بقصد "التّنقيح والتّصحيح والتّرميم"، مدركا أنّ النص الأصلي قد اشتغل عليه فصيل من الباحثين والنقاد والطلبة وتعاملوا مع معطياته الأصلية، فكيف يكون مآل أعمالهم حين يتم التّنقيح والتّصحيح والتّرميم، وعليه يرى بأن الأعمال يجب أن تعالج قبل الإصدار لا بعده. وتطال الرّؤية الجيلانية "الأنترنت الأدبي" الذي يراه مؤسّسا على "الدقة والعلمية والتنظيم"/ص24، وعلى هذا يجب أن يكون مستعمِله دقيقا ومنظّما، ولا يغفل بأنّه ينطوي على جانب من الترفيه الذي قد يأخذ من وقت مستعمله على حساب اهتمامات أخرى، وهذه الرؤية تصدر عن تجربة تعرف كيف تساوق المجال الجديد في تداول النص الأدبي، الذي ينتقل عبر النت من الورقية إلى الإلكترونية التي تجعل النص محايثا للتقنية المعلوماتية ذات الجذر التكنولوجي المرتبط بما هو علمي تطبيقي، لذلك وسم الناقد النص الانترنيتي بالدقة والعلمية والتّنظيم. بعد الرّؤى النقدية التي تمتح من تجربة الناقد الميدانية، يقدّم مخطط القسم الثاني من عمله النقدي على أساس قراءات في أعمال أدبية، مبتدئا بقراءة في ثلاثية الرّوائية أحلام مستغانمي، وثلاث روايات ومجموعة قصصية، وهو في كل ذلك يستعمل المنهج التكاملي الذي يسعى من خلاله إلى الغوص في العمل الأدبي ومحاولة القبض على المؤثرات التي توجّه النص وتزخرفه بالتناصات الموغلة في الإيحاء والدّلالة، كما أنّه يحاول أن يبحث في طبيعة اللغة الموظفة والأسلوب، والعلائق الظاهرة والباطنة التي تنسج الحكاية وتسير بها نحو التطوّر وذروة الصّراع ثم النّهاية. فما يثبته لدى أحلام مستغانمي مثلا في ثلاثيتها، أنّها "لم تسرد لنا واقعها المعيشي، ومحيطها الاجتماعي والواقعي كما في سيرتها الذاتية، بل وظفتهما كصورة شبيهة لذلك"/ص54، وهو بذلك إنّما يقارب موضوعة السيرة الذاتية التي تتماهى داخل العمل الأدبي كإستراتيجية تخاتل بها الناصة القارئ لإيهامه بالمتخيل الصّرف، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق دون توظيف المخزون الذّاتي، والذي قد يتسلل دون وعي الكاتب. عندما يتناول رواية علاوة كوسة: "بلقيس، بكائية آخر الليل"، يخلص فيها إلى أنّ "الرواية الحديثة يمكن أن تكون أسلوبا شعريا جميلا، وتدفّقات عاطفية مؤثرة"/ص69، وهو هنا يطرح الخلفية التّكوينية أو البدئية للناص/الرّوائي، وتأثير ذلك على أسلوبه في الكتابة، ولعلنا هنا نسترجع نموذج الكتابة الرّوائية عند مالك حداد الذي بدأ شاعرا، ويبدو لي أنه كان من المؤسسين لتيار شعرية الرواية في النص الروائي الجزائري. يبقى في الأخير "مقاربات نقدية"، عملا علميا جادّا، يضع القارئ أمام جهد ناقد يعرف كيف يقدّم المعلومة النّقدية بكل موضوعية معترفا أنّها ليست النهائية، ويحاول التأسيس للقراءة النقدية التي تجعل من النص العتبة القريبة من النقد، حيث يجعل القارئ في نقديته يتشوّق لقراءة العمل الأدبي ليس لأنّ العمل الأدبي كاملا، ولكن لأنّ النص وُضع بعناية على ميزان النقد.