أينما تنقلنا و جالت أبصارنا على أسطح الأبنية القديمة والحديثة و شرفات العمارات في المدن و القرى بل و على أسقف أكواخ الأرياف ، نشاهد منظرا متماثلا تصنعه كتل الحديد التي غالبا ما تكون بيضاء اللون و هي مصفوفة تتزايد كالفطر كما أنها تشبه الصحون الطائرة الاختلاف بينها أنها لا تطير إلا في العواصف الهوجاء والرياح العاتية لا تحدد حينها موقعا لهبوطها و لا تستثني فيها بين رؤوس المارة و السيارات . فمنذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي شهدت الجزائر أول صحن مقعر ليأخذ بعدها في الانتشار السريع بعد أن فكت قيوده المادية من قبل المحتكرين والتجار فكانت صحونه كأسراب الطيور المهاجرة التي حطت على جميع الأسطح و الشرفات ، فتحت أبوابها لعهد جديد من الانفتاح على العالم الخارجي بكل ما ينفثه من سلبيات و إيجابيات ترتبت عنها جملة من التغيرات في كل المجالات باعتبار أنها الحداثة و التجديد . بدأت الظاهرة منذ اللحظات الأولى تستشري في مجتمعنا فكان الحديث عن التأثيرات الاقتصادية التي تسببها القنوات الفضائية المتخصصة على حياة الناس بشكل عام وانعكاساتها على معيشتهم من جانب وعلى المهتمين والمتخصصين من جانب آخر. هذا المجتمع الذي كان منغلقا على عاداته و تقاليده يعتز بحضارته و يتمسك بها ، لأنه كان غير منفتح إعلاميا ، ووجود تلك القنوات المتخصصة وسع الأفق لدى السواد الأعظم من الناس ليس في الجزائر فحسب وإنما في كل أنحاء العالم . تأثيرات سلبية وأخرى إيجابية كما أن هذا النوع من الأجهزة له تأثيرات سلبية وأخرى إيجابية كثيرة كأي تقنية حديثة ، وبشكل أو بآخر ينعكس على حياة الناس ، والقنوات الكثيرة التي تبثها الفضائيات تعتمد على الدعاية الإعلانية وترويج البضائع المختلفة ومهما كانت أنواعها فهي تدر عليها بالمال وللأشخاص الذين يروجون لها وتهم فئات معينة من الناس وبخاصة منهم رجال الأعمال و الأشخاص الذين يسعون إلى تطوير مجالات عملهم ويجدون في تلك القنوات آفاقا واسعة الولوج لتنمية استثماراتهم . و ملايينا من الناس أصبحوا يشاهدون تلك القنوات التي تقدم الخدمات في كل أنحاء العالم ولم تقتصر على بلد معين وهذا بدوره خلق نوعا من التقارب من ناحية العادات الاستهلاكية للشعوب سهلت السبيل نحو التعرف على تلك العادات و التقاليد ، ومجالات الأسواق وعمليات التسويق ، وكيفية الحصول على المنتجات الجديدة . بذل الناس كل ما في وسعهم لامتلاك هذا النوع الصحون بمختلف أحجامها و أشكالها فضولا منهم لاكتشاف كل شيء جديد هو من طبيعة البشر، لأن الصحون المقعرة لم تساهم فقط بالتعريف على المنتجات العالمية ، بل ساهمت بعرض منتجات البلد نفسه ، وخاصة المنتجات السياحية من خلال البرامج السياحية التي تبثها القنوات الفضائية ، وساعدت على التعريف بالمواقع الأثرية والتاريخية المهمة ، فلعبت تلك القنوات دور المروج لها سياحيا وهذا بدوره ينعكس إيجابا على الوضع السياحي والاقتصادي ويشجع على زيارة تلك المواقع والتعرف عليها من قبل السياح . و بالمقابل..!! إذا نظرنا إلى الزخم العشوائي لتلك الصحون الجاثمة على أسطح الأبنية لوجدنا أنها بعيدة كل البعد عن موضوع السياحة والجذب لأنها تشوه المنظر العام للعمران . وهو ما يشجع على إيجاد حلول استعجالية لتلك المعضلة بفرض آلية معينة في عملية وضعه على أسطح الأبنية كأن نستبدل تلك الصحون بصحن مركزي للحي أو البناية أو العمارة بحيث يقدم خدمة جماعية كما هو متوفر بالفنادق . كان اقتحام هذا النوع من الأجهزة لمجتمعنا غير نظامي من بعض الدول المجاورة وكانت أسعاره مرتفعة جدا تجاوزت ال 100 ألف دج و كانت التمديدات العشوائية لكوابل التوصيل تشوه كل مكان و بسبب الانتشار السريع للصحون الفردية والطلب المتزايد عليه والسماح باستيراده ، كل هذا ساعد في انخفاض أسعاره حتى بلغت بين 1000 و 3000 دج حسب نوع و حجم المنتج ، وهو ما ساعد على انتشاره بين جميع الناس حتى أصبح وجوده بالمنزل أمرا طبيعيا و ضروريا ملحا و نوعا من أنواع التحضر و التقدم الثقافي . اعتبر بعض الناس في بداية الأمر أن هذه الصحون و الأجهزة المرافقة لها بدعة تتنافى تماما مع العقيدة و الأخلاق ، حيث لقيت معارضة كبيرة من بعض الجماعات و العائلات المحافظة و بخاصة نوع البرامج التي تعرضها المحطات باعتبار أنها لا تتناسب مع عاداتنا وقيمنا ، بينما تعاملت معها أطراف أخرى بإيجابية أكثر بهدف التسلية أو المعرفة والثقافة ، مما ساهم في انتشارها قصد التكريس لعهد جديد في الإعلام وفي الثقافة المرئية ، وعهدا من التحول الاجتماعي والأخلاقي في أسرنا ومجتمعنا وحتى الأجيال المخضرمة التي عاصرت التلفاز الأرضي و الفضائي ، شكل لديها حلقة وصل بينهما فبات من الطبيعي أن يؤثر على نمط العلاقة بين الأجيال خاصة و أن التلفاز أصبح يصنع جانبا هاما من حياة الناس حتى صارت برامجه لا تتحكم فيها الضوابط والقوانين التي تحكم المجتمع ، مما أدى إلى الانفلات اللا أخلاقي وبات الفن لإثارة الغرائز وليس لبناء الفن الراقي من خلال الكليبات التي تعكس الطبوع الثقافية أو فنية لأن معظم أصحاب الأموال أرادوا لها أن تكون ترفيهية وليست ثقافية ، ويحاولون إيجاد توازن بين الفن واللافن والأخلاق واللا أخلاق ولهذا صارت قلة قليلة من القنوات التي تعنى بالفن الراقي . و رغم ذلك فإنها تقف عاجزة دون أن تضيف جديدا لثقافة أخرى سوى الثقافة المرئية الإعلامية كما طغت الثقافة الإعلامية السياسية على الثقافة الأدبية من الشعر والأدب والرواية بل و حتى على المسرحيات . فمئات المحطات العربية جعلت الناس أكثر وعيا من الناحية السياسية وجعلتهم يميزون بين الغث والسمين وبين الخبر الصادق والكاذب ، ولم يعد للفرد رؤية أحادية ، بل تنوعت الرؤية ، ولكن للأسف انتشرت ثقافة العنف ولاسيما عند الأطفال الذين أصبحوا يرون العنف في الأخبار السياسية وأفلام الكرتون على مدار اليوم و الساعة تتخللها ومضات إعلامية و إعلانات إشهارية اعتاد الناس أخذ المعلومات منها إلى جانب قضاء أوقات في التسلية و المرح . وعلى الرغم من أهمية هذه القنوات وعدم إنكار دورها الإيجابي إلا أنها خلقت انقسامات بين أفراد العائلة حيث تعددت الخيارات وتعددت الآراء حولها ، و كان الجميع مضطرا لرؤية ما يعرض ، و احتدمت الخلافات حول ما يشاهد و ما يترك ، لتبرز بذلك ظاهرة أخرى تأتي على حساب القراءة والكتاب التي حلت محلها القص المتحركة ، فلم يعد جيل الأقمار يبحث عن الثقافة الجيدة . ثقافات دخيلة تؤكد بعض الأبحاث على أن غالبية ما تبثه شاشات " الستلايت " يتبع لأهواء ولمصلحة الجهات الممولة ، ومن هنا بدأت بعض القنوات بالمتاجرة بالبرامج وكان ذلك سببا في تغيير الكثير من سلوكياتهم وعاداتهم وحتى في مشاعرهم تجاه القضايا المهمة وفي نظرتهم للعلاقات الأخلاقية والإنسانية داخل الأسرة وفي المجتمع . و إن كان ما يشاهد على هذه القنوات بعيد كل البعد عن الأهداف التربوية و مناهجها ، كما تقضي أيضا على الجانب البدني والعقلي حيث يجلس الأطفال ساعات طويلة أمام الشاشات مما يؤدي إلى اعتلال الصحة و الخمول الذهني وتعطيل الذكاء حيث تتسطح وتضمحل الثقافة وتسكن محلها ثقافة وافدة وبالتالي تكريس لأمية الفهم والقدرة على المحاكاة والموازنة . كما توثر سلبا على الجانب النفسي للأطفال وشباب بسبب ما يعرض عليهم من برامج محشوة بالعنف والخوف والأفلام المرعبة ، ينعكس ذلك على حالتهم النفسية ويشكل شخصيتهم و يصنع ردود فعلهم و علاقتهم مع أفراد الأسرة و كذا الأصدقاء، وبالتالي قتل الإحساس بالجماعة و الدفء الأسري فحتى أثناء تناول الطعام يهرع أفراد الأسرة إلى متابعة القنوات و تجد في العائلة الواحدة غالبا عدة شاشات تعرض قنوات مختلفة . كشفت الدراسات التربوية أن الأوقات الطويلة التي تستغل لمتابعة القنوات لها أثرها السلبي في متابعة الدروس والتحصيل العلمي ، ما يؤدي إلى تدني المستوى الدراسي و ما يرافقه من تدني في مستوى القدرة على ممارسة الأنشطة الاجتماعية وتقوية حس الجريمة والسلوكيات السيئة نتيجة عدم المراقبة لما يعرض من برامج عودت المشاهد على استسهال نوعية العمل للحصول على المال و جعلت كل المهن مقبولة حتى أصبحنا نشاهد أشخاصا مثقفين يدخلون مسابقات الأغاني والرقص بحثا عن الشهرة والمال . و تشير ذات الدراسات إلى إن المشكلة لا تكمن في الوافد الجديد القديم ، و في مستوى التطور العلمي ، فهي وجدت لإسعاد البشر ، وبالتالي فإن الأساس في هذه الظاهرة وما خلقته من تداعيات يعود لطريقة التعامل مع المادة الجديدة كما تعود للقيم والأخلاق والعقول التي تتعامل معها ، فهناك هوة بين التقدم التقني والتقدم المادي والفكري والثقافي وهناك مشكلة بالأشخاص والشركات التي تتولى إدارة هذه التقنيات من تبعية وأهداف مادية وغيرها من المسائل التي حولت الأقمار و الأطباق إلى عبء على المجتمع في غالبية جوانبه ، و جميل أن يكون لهذه الأجهزة و الآليات فضل كبير في استقبال أخبار العالم و ما يحدث فيه مباشرة و ساعدت في نقل العلوم والاكتشافات الحديثة وتحريض عقل الشباب تجاه معرفة كل ما هو جديد .