عدت من الأراضي المقدسة بعد أداء فريضة الحج بحجم كبير من الإرهاق خفف منه الرضا بأداء الفريضة، لكنني عدت أيضا بانطباعات متناقضة، من واجبي أن أتقاسمها مع قرائي. كان الانطباع الأول هو الجهد الهائل الذي قامت به العربية السعودية لتسهيل عملية الحج بالنسبة للملايين التي تحتشد كل عام في المملكة، فبالإضافة إلى توسعة الحرم المكي التي تم آخرها وأكبرها في عهد الراحل فهد بن عبد العزيز كانت هناك الإنجازات التي تمت في عهد الملك عبد الله، شفاه الله، ومن بينها أنفاق وجسور منطقة رمي الجمرات، والقطار الكهربائي الذي استطاع أن يمتص حجما هاما من الحجاج الذين يتنقلون إلى منى والمزدلفة، وهو حجم سيتزايد ويتسع مجاله في الأعوام القادمة، وتم إنجازه في أقل من عام، بينما يتعثر قطارنا الكهربائي منذ نحو ثلاثين سنة. وكان أروع ما عشناه التجاوب الكريم الذي لقيناه من السلطات السعودية، بدءا بالسفير الرائع الدكتور سامي عبد الله في الجزائر، ثم الاستقبال الكريم الذي حظينا به، أنا ورفاقي، رشيد حراوبية وزير التعليم العالي وناصر مهل وزير الاتصال، والتصرفات الراقية والأدب الكبير في التعامل مع ضيوف المملكة، لدرجة أن مدير المراسم الملكية في مكة قال لي وأنا أتحدث معه: نحن على كل المستويات خدامكم. ولا يمكن أن أنسى في هذا المجال مرافقنا الرائد سعود الدوسري، الذي كان يرعى تحركاتنا ويسهر على تذليل ما يمكن أن نواجهه من صعوبات، هي جزء من عملية الحج نفسها. باختصار شديد، بذلت السلطات السعودية أقصى الجهود لكي تمر مناسك الحج وشعائره على أحسن وجه ممكن، لكن السؤال الذي عدت به من الأراضي المقدسة: إلى أي حدّ أثمرت تلك الجهود؟ وهنا، والتزاما بأمانة الكلمة وعملا لتكون صورة المسلمين صورة مشرقة مشرفة، سأكون صريحا إلى أبعد الحدود. فعندما بدأتُ وأسرتي الطواف حول الكعبة المشرفة وخصوصا في طواف الوداع فوجئت بأمر لا يمكن السكوت عنه أو التستر عليه، وبدلا من جوّ الخشوع المطلق والتبتل الهادئ وجدنا أنفسنا، وكثير من حجاج بيت الله الحرام، في مواجهة مخلوقات كانت أقرب إلى الثيران الهائجة في ملعب إسباني، تندفع وتتدافع بين الصفوف، بصفة فردية تارة وبأسلوب القطار متشابك الأفراد تارة أخرى، وهو ما ضاعف من آثار زحام هائل فرضه العدد الكبير من الحجاج، وزاد من صعوبته مخلوقات أخرى كانت تحاول السير ضد اتجاه الطائفين بعد أن أكملت الأشواط السبعة مخترقة صفوفهم، بدلا من أن تخرج من الدائرة في نفس اتجاه الطواف. وكانت هناك صور تثير الرثاء، من بينها قوم التصقت أعينهم بكتب يقرؤون منها كالببغاوات أدعية مكتوبة وكأنهم تلميذ غبي يحاول حفظ درس ثقيل، وكان هناك من يصرخون بالدعاء وكأنهم يتصورون أن السماء مصابة بضعف في السمع. وكان الغريب أن بعض من كانوا يمارسون تلك التصرفات أناس تصل لحاهم إلى أسفل صدورهم، وتحمل جباههم الخاتم القاتم الذي يُسمونه زبيبة الصلاة، والذي لا أفهم كيف يتكون عند البعض في حين لم أصب به رغم أنني أصلّي منذ كنت في الثامنة من العمر. وكان الأمر أكثر سوءا في طواف الوداع، عندما انهمرت أمطار مفاجئة أربكت الجميع، وكان الطواف معاناة اقتربت من المخاطرة. ومرت في ذهني خلال لحظات سريعة صور للمصلين في ساحة الفاتيكان، حيث يتم كل شيء بخشوع وباحترام للمكان وللحضور وللطقوس، وشعرت بحجم كبير من الغيرة، فرحت أتساءل: هل أمتنا هي فعلا خير أمة أخرجت للناس، وهل هؤلاء البشر هم من سنواجه بهم أعداء الإسلام؟ وعندما كنا في منىً شعرت بحجم من القرف يفوق التصور، فلقد اكتسحت أكوام القذارة في الشوارع والممرات كل الجهود التي بذلتها السلطات المعنية لتنظيف المكان، لأن أكداس البشر المكومة على جوانب الطريق كانت تلقي فضلاتها حيثما اتفق، في حين كانت هناك أوعية مخصصة لرمي القمامة، ولم يختلف الأمر في كل مكان وجد به الحجاج. وكان تفسير كل ذلك يتركز في جملة واحدة هي...الجهل بقواعد الإسلام، والذي لا نجده في تصرفات الأميين وحدهم بل نجده عند أنصاف العلماء وأشباه المتعلمين، ممن يتصورون أنهم يعرفون، مما يجعلهم أكثر خطرا على الإسلام وأكثر إيذاء للمسلمين. ورحت أتساءل ثانية... أين علماء المسلمين ممن يتفننون في اختراع أشكال العمائم وألوانها وفي الاهتمام باللحى والذقون وأطوالها ويتسابقون إلى شاشات الفضائيات للتباري في تقديم الفتاوى العجيبة والتشدق بلغة خشب دينية لا يفهمها أحد، لأنها ترديد لجمل معلّبة متوارثة عبر السنين، ثم يمارسون عملية تهديد لكل من يحاول تذكيرهم بدورهم الحقيقي في توعية المسلمين، فيقرعون أسماعنا بالشعارات المتوارثة من نوع ...العلماء ورثة الأنبياء، في حين أن سيد المرسلين قال بصريح العبارة : نحن معشر الأنبياء لا نورث؟. ولا يتورع بعضهم، لمنعنا من محاولة نقد ما ننكره من تصرفات، عن تهديدنا صارخين في وجوهنا بأن لحوم العلماء مسمومة، ولست أدري أي علماء هؤلاء مقارنة بمن عرفهم الإسلام من أمثال بن باديس والإبراهيمي والعربي التبسي وحسن البنا ومحمد الغزالي ومئات بل وآلاف آخرون، كانوا قدوة وكانوا روادا. ولقد رأيت بعض العلماء الجدد في كنف الرعاية الكريمة للسلطات السعودية التي استقبلتهم في إطار المدعوين (VIP) ولكنهم لم يقوموا، فيما رأيت، بأي جهد لإرشاد المسلمين، وكان منهم من كان يصلي وحده أو مع بعض خلصائه بدلا من أن يصلي بنا نحن، معشر الأميين دينيا، ويرشدنا إلى ما يجب عمله في هذا الموقف أو ذاك. ولم أر مجموعة منهم في الحرم المكي تطالب الناس بالخشوع وتدعوهم إلى احترام نظام الطواف، بدلا من ترك العبء على رجال الشرطة الذين لا يجرؤون على ردع حاج مهما كانت مخالفته. ولم نسمع لأحد منهم صوتا في عرفات، حيث تركت الخطبة لإمام وحيد كنا نسمع صوته الأجش المُنفر عبر مكبرات الصوت الموجهة لنحو ثلاثة ملايين من الحجاج، يقذفنا بسلاسل من الكلمات التي لم يفهم منها معظم الحجاج، وأنا منهم، كلمة واحدة، وذلك بدلا من قيام الأئمة، كل في موقعه، بمخاطبة من حوله من الحجاج، فالأمر لا يتعلق بخطبة جمعة. وهكذا وبقدر ما كان الحج انتصارا للسلطات السعودية كان هزيمة لكثير من علماء المسلمين، كلاسيكيين أو مودرن، ومعممين أو مكرفتين مكستمين. ذلك أن الحج بهذه الطريقة لا يحقق هدفا رئيسيا من تجمع ملايين المسلمين في مهبط الوحي، ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله في أيام معدودات. ولقد قيل بأن هناك اتجاها لزيادة توسعة الحرم المكي للتخلص من مخاطر الزحام، لكن هذا لا يحل المشكل لأن هناك مواقع لا يمكن المساس بحجمها مثل عرفات، مما يعني أن علينا البحث عن حلول أخرى، ويجب أن لا يظل العبء على كاهل المملكة وحدها، فالأمر يهم جميع المسلمين وبالتالي يتحمل مسؤولية مواجهته كل الدول الإسلامية. وتصوري أن أول جوانب الحل هو التوعية التي يجب أن يتولاها علماء المسلمين في كل بلد مسلم، وقد يستدعي الأمر إقامة معسكرات تدريبية لمجموع الحجاج قبل انطلاقهم نحو البقاع المقدسة، ولقد استعملتُ كلمة : "معسكرات" عمدا لأن المطلوب ضمان أكبر حجم ممكن من الانضباط مما لا توفره المحاضرات والندوات الطوعية. وهكذا يتعرف الحجاج، والأميون منهم على وجه التحديد، على كل معطيات الحج وطريقة ممارسة شعائره، وبكل الأساليب الممكنة، صورا وأفلاما وإرشادات من كل نوع، وتتضمن على وجه الخصوص الحض على عدم التدافع، أو ممارسة البدع التي تتسبب في اختناقات كثيرة خلال الطواف، وخصوصا أمام الحجر الأسود ثم عند الصفا والمروة، وإفهامهم مسبقا بأن التعلق بأستار الكعبة أو التمسح بجدرانها أو مزاحمة الآخرين لتقبيل الحجر الأسود ليس من الإسلام في شيئ، والمطلوب منهم أولا وقبل كل شيء الخشوع في أول بيت بني للناس. أما الجانب الثاني، وهو بالغ الأهمية أيضا، فيجب أن تلتزم به الدول الإسلامية كلها، وهو العمل على تخفيض عدد الحجاج عبر محورين، الأول التوعية الدينية بإفهام المسلمين بأن الحج هو أولا على من استطاع إليه سبيلا، صحيا وماليا، وهو ثانيا مرة واحدة في العمر، يمكن لظروف محددة أن يتكرر مرة أخرى، لكن الذين يحجون أكثر من مرة يرتكبون إثم مزاحمة المسلمين الذين لم تتح لهم إمكانية القيام بخامس أركان الإسلام. ولقد استعملت كلمة "إثم"، لأن حرمان المسلم من حقه في حج بيت الله الحرام نتيجة لتحديد العدد، أو وضعه في ظروف من الزحام لا تمكنه من أداء الفريضة في أحسن الظروف هو في نظري إثم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده...ولعلي أضيف، ومن ماله. وأنا أظن أنه لا ثواب لمن يزاحم المسلمين لأنه يملك من المال ما يمكنه من تكرار الفريضة، وهو بالتالي قادر على الاكتفاء بالعمرة، التي لا تختلف عن الحج إلا في أنها لا تشمل الوقوف بعرفة، وعدد مرات أدائها وأوقاتها متروكة لاختيار المسلم ولإمكانياته. وعلى منظمة المؤتمر الإسلامي أن تمكن السعودية من إنقاص "الكوتة" التي تمنح لكل بلد، فتصبح، مثلا، واحدا عن كل 1500 أو 2000 من عدد السكان. وهذا دور العلماء في الإقناع والإرشاد والتصدي للمزايدات. ولا بد من فرض عقوبات على البلدان التي يُحدث مواطنوها أكثر من مرة ما يسيء إلى قدسية المشاعر وحرمة المناسك، تماما كما يُمنع المشجعون المشاغبون من حضور المباريات الرياضية. وهنا فقط يمكن أن يعود الحاج المؤمن لبلده كيوم ولدته أمه.