في البدء كانت وهران كسناء حسناء محافظة وساحرة، كانتا تستمدان سحرهما من البحر و، كانت أمي على النقيض امرأة متسلطة، متمسّكة بمواقفها، وفيّة لقراراتها واليوم وأنا واقف عند المفترق وقفت على هول الكارثة... فجأة لست أدري ما أصابني،شعرت بالضعف وأني منهك إلى العمق ، وبدت لي وهران من غير سناء خلف ستار من الدخان تافهة وحزينة،وهران فتحت ذراعيها للوافدين إليها ، زرعت فيهم بذور الحياة والمحبّة، حمّلوها خطاياهم وأعلنوا عليها العصيان. ..وهران بحرك لم يعد يلهمني وسناء أمواج تخيفني،الدنيا لم يعد لها طعم ولم أعد أصدّق أحدا. استلقيت على سريري والمشهد الأخير لطيور مهاجرة تعبر خط قرينيتش نحو الشرق لم يفارقني،.خبأت عيني تحت الوسادة،ركبت خيالا بأجنحة متكسّرة،أضفت حلقة لحلم رجل انتحر على صدر امرأة اتّخذت منه بطلا واتخذ منها موطنا ،غادرت المدينة على عجل. ثمّة شيء خارق بداخلي يخنقني ويدفعني أن أصدّق أحد المجاذيب، التقيته صدفة على الرصيف انفجر ضاحكا في وجهي وقال : - غريب أنت والغرابة تكمن في انحصارك بين اللهب والنار ،هذا قدرك،لا تنتظر أن يخلّصك منه أحد، لهب تحمله بداخلك إلى أن تنال مرتبة الشهداء ونار... توقّف فجأة عن الكلام وهو يبتعد أردف قائلا: - ولم يبق لك سوى الدّعاء.. اختفى عن نظري وكأن الأرض ابتلعته، ما أعلمه اليوم أن نبوءته بدأت تتحقق، أيا سواد عينيها الواسعتين ورقصة شعرها الغجري مع الريح، هي امرأة من نور..هي وطن وجرح نازف تثيره الخطابات الرّسمية،أذكر جيّدا يوم قابلتني على الكورنيش ، كانت تخبئ في عينيها الحالمتين شيئا من الحنين وكثير من العطف والحسرة، من يومها تكسّرت أمواج الشاطئ بداخلنا وعلى صخرة الصمت انفجرنا، تعرّينا في لحظة انشطار وأفقنا على هول الفاجعة، بكينا وفي لحظة وداع بحت لها بما كنت أحتفظ به لنفسي ونامت على كتفي وهذا ما لا كنت أتوقعه... . ودعتني وهمّت بنزول السّلم، تعلّقت عيني بمؤخرة قدميها حتى خيّل إلي وكأنها غريق يجرفه التيّار إلى العمق، حين وصلت إلى الأسفل استدارت، ابتسمت ابتسامة ذابلة، لوّحت بيدها للمرّة الأخيرة قبل أن تختفي في زحمة الشارع.ثمّة عشر درجات تفصل بيني وبينها مفروشة برداء أحمر،كان بإمكاني اجتيازها بخطوة عملاقة وأكون بجانبها لعلني أتمكن من إقناعها بالتريث والعدول عن قرارها المجنون. شعرت بالعجز وبخطورة الموقف . تسمّرت بمكاني ولم أفعل شيئا... تلاشى وجهها في الضباب وظهر أمامي وجه امرأة غابت ملامحه ، تذكرت وجه أمّي وتبادر إلى ذهني أخطر قرار اتّخذته في حقّي، قالت يومها بصوت لا جدالا فيه: - إني قرّرت، قراراتي غير قابلة للنقاش، هذا موقفي وأنا متمسّكة به. - إيه يا أمّي... الاختلاف رحمة والرحمة شجرة يقين ضاربة عروقها في الأرض مهما تعرضت أغصانها للعواصف لن تعبث بهاالريح. وفي لمحة بصر داهمني الحزن ورحت مندفعا للشارع أبحث عن سناء ،و كلماتها الأخيرة لم تفارقني ، قالت وهي تودعني: - إن بحثت عني ، تجدني قناعة مرسومة على محيا البسطاء ، ميزة يفتقدها الخطباء ، آه لو يستدركهاالفرقاء... غريب هكذا أحسست في مدينة أنجبتني وتخلّت عني في لحظات ضعفي، معلوم أن تأخذ أشكالا وألوانا في عيون الغرباء هكذا خاطبت نفسي وسمعت صوتا عاصفا كالريح بداخلي يردد: - ارحلي من مدينة الخروقات مع حلمي المستحيل، اعبري المسافات كالضوء وكالملائكة، أني جرّدتك من خطاياك، حرّريني من قيود الأسئلة. نظرت إلى السماء، الحرارة لم تعد تطاق وتموز على الأبواب يبشر بصيف ساخن،خاطبت الفراغ الذي يسكنني وقلت : - تموز يا خالق الجحيم والدموع الساقطة. يا خاطف مني غصن الزيتون الممدود وسنابل القمح الراقصة. لا تعذبني.لا تكذبني ، هذا عطرها الغجري يسافر إلى مدينة النور والجسور العالقة،دعها تفرح ودعني أحرث البحر وازرع الأماني ، إن دقت أجراسي فعصا موسى خلاصي. عبرت نفق التحرير دون أن أعلم إلى أين ستقودني خطاي إلى أن وجدت نفسي بين القبور لعلني جئت أبحث عن الهدوء والسكينة، انحنيت عند قبر مجهول المعالم ،اغرورقت عيني بالدموع، لم أعلم كم مكثت هناك من الوقت سوى أن الشمس مالت نحو الغروب مودعة. منهك القوى كان لا بد لي أن امتطي سيارة أجرة أثناء عودتي، سألني السائق عن وجهتي، قلت : - خارج المدينة عند المفترق.. واحتفظت لنفسي أن يكون لي منه المنطلق وسؤال وحيد يشغلني إلى متى أظل أبحث عنها وطيفها يتبعني كظلي؟..أغمضت عيناي ورحت أردد مع الصوت المنبعث من مذياع السيارة : (( لو حكينا نبتدي منين الحكاية؟ )) .