إن الكتابة والبحث في مجال الفن الغنائي هو دعوة صريحة لفتح ورشة جديدة للبحث، و شق طريق و اقتراح برامج عمل للاشتغال على ذواتنا و استخراج المعرفة الحية من المعرفة الميتة، عبر إعادة النظر في بعض المسائل الجوهرية كمسالة التراث اللامادي و الهوية و المواطنة و الحداثة من خلال النصوص الممزوجة بالممارسة الفنية . لكن لا تحصل هذه المراجعة إلا عبر زحزحة هذه المفاهيم أو على الأقل ممارسة نوع من الترميم على حد قول " جاك دريدا " ،إن الكلام عن الشعبي هو محاولة موضوعية و جادة للمرافعة من أجل التراث اللامادي لكن على طريق المساءلة و الفهم من جهة و التذوق من جهة أخرى . لا يجادل اثنان في أحقية الريادة لهذا الفن وذلك للطبيعة الخاصة التي يتميز بها وهي خصوصية المحلي وشمولية الكوني وعلى سبيل المثال أغنية دحمان الحراشي " يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي، شحال ندمو العباد الغافلين قبلك وقبلي"، وبالإضافة لذلك النص الذي بني عليه وهو شعر الملحون وهو الأصل في هذه العملية الإبداعية ،كما يعتبر شكل من أشكال تدبير الذاكرة، و يرجع الفضل " للشعبي" في العودة للنبش في ذخائر هذا الفن العريق، و لم يقف هنا فقط و رغم العوائق و الرواسب ذهب الشعبي ليقتفي آثار الشيوخ و الحفاظ ليحصل على أرقى المعاني و المباني . لقد انتبه فنانو الشعبي في وقت مبكر إلى حاجة الجزائريين إلى هويتهم كاملة يعتزون بها و يتباهون بها عبر مسالك غير إيديولوجية. تمازج الملحون مع الشعبي ضمن مقاربة فاعلة أو تفاعلية و التي لعبت دورا أساسيا في تدوين و توثيق التراث اللامادي بما فيها النص و الموسيقى و لم ينخرط في حيز الثنائيات الضدية التي تفخر بها الثقافة العربية عموما، بل تجاوزها و مارس معها القطيعة باعتبارها ضرورة حداثية . ثقافة عالمة إن رؤية الفنانين الفاعلين في الميدان الموسيقى وخصوصا الشعبي يريدون أن يحققوا مطمح بناء مدرسة جزائرية ذات خصوصية تغرف من تراثها وتنسجم مع التحولات الراهنة في ميدان الموسيقى العالمية كما أنهم يتحرجون و يرفضون التوجه السائد و الذي يفضل الميراث العالم الذي تم بناءه بالعمل الإيديولوجي وخصوصا على مستوى التقابل بين الفصحى و العامية و الذي صار عرضة للمساءلة في المجتمعات المغاربية ، والأمر هنا يتعلق برفع الإيديولوجيات عن التاريخ الثقافي ،فكل أطفالنا يعرفون شعراء الجاهلية و المعلقات السبع و لا يعرفون "محمد أبو الراس الناصري المعسكري"، "محمد قاضي"، "المغراوي"، و" سيدي لخضر بن مخلوف" و لا يعرفون كبار الشعبي في بلدهم و يعرفون أنصاف موسيقيين في العالم و الأمثلة كثيرة على ذلك . إن النظرة التفاعلية اتجاه الملحون و الشعبي يحملان رهان الانتقال من الشفاهية إلى التدوين عبر الممارسة لا الكلام. لأن الكثير من الشخصيات و المواد التراثية أخطا طريقها و بدل أن تدخل الذاكرة دخلت بابا آخر اسمه النسيان و يعود ذلك للنظرة الجامدة أو الستاتيكية التي تقوم على الأفكار المسبقة، و الجهل المركب. ومن بين الكتب التي استطاعت أن تترجم لنا مسارات الفاعلين حول فن الشعبي في الجزائر كتاب : كبار شخصيات الموسيقى الجزائرية والذي طبع في ثلاث أجزاء باللغة الفرنسية لعبد القادر بن دعماش . Les grandes figures de l'art musical Algérien édition cristal print.2003 قد فهم بن دعماش أن الملحون و الموسيقى قد حققا للجزائريين خصوصية أدبية رائدة و مدارس خاصة، انبعثت من أعمال أجيال عديدة من ضرورات حياتها و علاقتها، من أفراحها و أحزانها إنه يدخل في عمق ما هو حميمي فيها، و خاصة فيما يربط الإنسان بكينونته الممتدة عبر الزمن. يمكن اعتبار هذا الكتاب بداية الطلب للباحثين و الدارسين، و يمكن اعتباره نهاية الأدب للمتذوقين. جاء الكتاب ( الجزء الأول ) في 251 ص أما الجزء الثاني جاء في 319 ص. قدم للكتاب الأول بلنوار عبد الصمد، مدير سابق في وزارة الثقافة. و ضم الكتاب-الجزء الأول - 74 شخصية فنية و موسيقية و لم يقص بن دعماش العنصر النسوي في تمثيله للأغنية الجزائرية فحمل الكتاب ترجمة سبع نسوة كانوا فاعلين في هذا الحقل من بينهم: المعلمة يمينة بنت الحاج المهدي و التي عاشت ما بين 1859 _ 1933 و التي تعتبر من الأوجه الأولى في المجال الموسيقي الأندلسي و الحوزي و مريم فكاي ( 1889 _ 1961 ) - الشيخة ثابت طاطمة ( 1891 _ 1962 ) - الحاجة الزهور فرقاني ( 1915 _ 1982 ) - هجيرة بالي ( 1928 _ 1960 ) - فضيلة الدزيرية ( 1917 _ 1970 ). والكتاب بالعموم بدأ من محمد سفنجة ( 1844 _ 1908 ) إلى غاية كمال مسعودي ( 1961 _ 1998 ) و محبوب باتي ( 1919 _ 2000 ) وغيرهم دون إقصاء لأي أحد . و ذيل الكاتب الجزء الأول بخمسين صورة ( 50 ) يعود بعضها إلى ( 1915 ). كما اعتمد الكاتب على 15 مرجعا بالفرنسية و عاد لبعض الجرائد المكتوبة بالفرنسية. أما الجزء الثاني: قام بتقديمه الباحث محمد بلعربي، و قام الكاتب بإتباع مسار 163 موسيقي من بينهم أربعة نساء و ذيل كتابه ب ( 51 ) صورة جماعية و فردية تعكس رجالات و نساء الفن الموسيقي الجزائري الحديث و المعاصر. و ختم كتابه ب 25 مرجعا بالفرنسية و مجموعة من الجرائد المكتوبة بالفرنسية و الصادرة ما بين 1970 إلى غاية 2002. اعتمد الكاتب المنهج الكيفي و المقاربة البيوغرافية رغم الصعوبات المنهجية التي تمتاز بها هذه المقاربة حيث نجح في رصد الظاهرة الموسيقية بالجزائر عبر البناء الفردي للوقائع الفنية، و حتى لا أعرج طويلا فان هذه المقاربة استعملت في التراث الأدبي الغربي قبل أن تستعمل في مختلف العلوم الإنسانية و يقابلها في ثقافتنا السيرة المستنبطة من تراثنا الأدبي و الديني، لكن السير هي ترجمة سيرة حياة للكاتب نفسه. أما البيوغرافيا تختص بغرض خارجي كحياة المعني بالأمر سواء كان حيا أو ميتا، اعتمادا على مصادر وثائقية. أو بواسطة جمع الوثائق و المقابلات مع المعني أو مع أشخاص آخرين من محيطه. كما استعمل المقاربة الإثنوبيوغرافية في جمعه للمادة من الرصد المكثف على المستوى العائلي ،و الأقارب و الأصحاب كما استعمل كذلك الفوتو-بيوغرافيا ، أو السيرة الذاتية المصورة ؟ حيث استعمل الصور التي تحكي صورا ،صور الحاضر التي تحيل على صور غائبة ،لقطة جامدة تعيد للحياة مشهدا قابعا تحت طبقات سميكة من النسيان ولذلك كانت الفوتو-بيو غرافيا، مقاربة صائبة بالنسبة لبن دعماش ، لأنها كانت محركة لحرارة الحياة الحبيسة تحت رماد النسيان وبرودة العادة . استطاع بن دعماش من خلال تناوله للشعبي أن يحفر عميقا لاستنطاق ما كان له معنى وإعطاء نوع من المعنى لما كان يقدم نفسه بلا معنى. هذا العمل هو نوع من الحفر الأركيولوجي الذي سلم من النسيان كما تسلم القطع الأثرية ،فاستحقت إعطاءها معنى واستطاع كذلك استدعاء الذاكرة الفردية و الجماعية الغنائية عبر بيوغرافيا حميمية . إن الاهتمام بالفن الشعبي هو تواصل هادئ وبناء مع الموروث الثقافي الجزائري ،ووعي خاص لحفظ الموروثات الشعبية وخصوصا غير المادية منها في إطار تفعيل مشروع ثقافي جزائري على خطى التبادل المستمر بين التراث و الحداثة و التراث أبو الحداثة .