هناك عيِّنةٌ من الأساتذة الذين يرتبط بهم طلبتُهم مهما تقدَّم بهم العمر، و مهما سَمَتْ ببعضهم المناصب أو علتِ المسؤوليات و مهما بعدت المسافات . الأستاذ محمد الصالح الصديق واحد من هذه العينات التي بقيت العلاقة معه متينة و راسخة منذ 52 عاما مضت. منذ أول درس معه في ثانوية عبَّان رمضان عام 1964، ثم بثانوية ابن خلدون لاحقا ، و العلاقة بالأستاذ تترسَّخ و تزداد متانة ، كان اللقاء به سابقا يجري عند صديق مشترك في حسين رحمه الله ، مثلما التقيت به في تونس أكثر من مرة و هو يجوب حي القصبة العتيق أو في أحدى مكتبات العاصمة التونسية حيث تعود أن يزور هذا البلد متذكرا أيام شبابه حيث جامع الزيتونة التي تتلمذ فيه على أيدي العديد من الأدباء و المشائخ التونسيين و الجزائريين ، و حيث ربطتْهُ علاقاتُ صداقة مع كثير من الطلبة الجزائريين و التونسيين . في الأعوام الأخيرة صار الهاتف يجمعني به أكثر من مرة في العام، كما صارت زيارته في بيته من أوجب الواجبات بالنسبة لي مثلما كنت أفعل كذلك مع الآخرين الأساتذة من أمثال عبود عليوش و الجنيدي خليفة و عبد القادر يحياوي و أحمد كاتي و حسن لحضيري رحمهم الله وغيرهم . في الأسبوع الماضي زرتُ أستاذي محمد الصالح الصديق صاحب ال 91 عاما و ما يزيد عن المائة كتاب . كان الرجل كعادته متقد الذهن قوي الذاكرة، يخدم ضيوفه بنفسه ، فيقدم لهم القهوة و المرطبات بتواضع العالم ، يفتح الباب لزائريه من طلبته و أصدقائه مثلما يودعهم عند المغادرة بالباب. كان اللقاء فرصة لأقدم لأستاذي آخر كتابين لي : اغتيال عقول ..اغتيال أوطان .. في الثقافة ..بعيدا عن أوجاع الربيع الزائف. و في نفس الوقت وجدته يهرع إلى مكتبته ، فيقدم لي بإهداء جميل كذلك آخر كتابين أصدرهما مؤخرا مُرْفقيْنِ بتقديمٍ جميل أصرَّ أن تكون الكتابة بيدي والتوقيع بيده . ثم رحْنا نتبادل حديثا مفعما بالذكريات الجميلة التي يتفنن فيها الإنسان محمد الصالح ويضفي عليها من روح الأديب لمسات من الجمال و الدعابة أحيانا . ذكر لي واقعة جرت له عام 1951 بتونس. ففي الوقت الذي كان يتأهَّبُ فيه لاجتياز مسابقة شهادة التحصيل في اليوم الموالي بجامع الزيتونة زاره صديق دربه محمد أمزيان طالبي رحمه الله الذي كان واحدا من أساتذة التعليم الثانوي عقب استعادة الاستقلال وأحد الأصوات الإذاعية المميزة التي تأنس لها الأذن و يرتاح لها الإنسان. وقرر الاثنان قبل تلك المسابقة زيارة أحد الأساتذة التونسيين المشهود لهم بالكفاءة والذي كان معروفا كذلك بورعه و تصوفه ليقدم لهما النصيحة و يدعو لهما بالنجاح. وفوجئا قبل خروجهما أن ذلك الأستاذ راح ينصحهما بالتوجه قبيل الامتحان إلى ضريح أحد الأولياء الصالحين بتونس وأن يكتب كلُّ واحدٍ منهما دعاءه على الحائط بالتوسل إلى الله بتحقيق الأمنية التي يرغب في تحقيقها . وبمجرد الانتهاء من زيارة الضريح راح كلٌّ منهما يسأل الآخر عمَّا كتب. وبعد أن تعاهدا على أن يقول كل منهما الحقيقة للآخر ، إذا بمحمد أمزيان يقول لصديقه محمد الصالح بأن أمنيته أن يمكنه الله من اكتساب فيلة في حي بوزريعة بمدينة الجزائر !! أما الطالب محمد الصالح الصديق فقد اعترف لصديقه أنه دعا الله أن يُمكِّنَهُ من تأليف مائةِ كتاب !! و راح الطالبان يقهقهان و يضحك كلٌّ منهما على الآخر ، إذ كيف يمكن لطالب فقير أن يحلم بامتلاك فيلة في حي راق مثل حي بوزريعة الذي كانت تؤمه آنذاك أغلبية من المعمرين الأوروبيين، في حين كان الجزائريون يُعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية . ثم كيف يُمكن كذلك لطالبٍ في صفةِ محمد الصالح الصديق أن يَحْلُمَ بتأليف مائة كتاب في وقت كان فيه المستعمر يَحْجُرُ على الجزائريين حتى القراءة في المدارس النظامية التابعة للقوة المستعمرة، فما بالك بتأليف 100 كتاب !!.. ويقول لي الأستاذ محمد الصالح الصديق إنه بعد مرور سبعةِ أعوام على تلك الواقعة جاء من تيزي وزو إلى مدينة الجزائر مُحَمَّلاً بكيسٍ من مشروع كتابه مقاصد القرآن .. و لكم كانت دهشته كبيرة ومفاجأته أكبر عند نزوله من الحافلة أن شاهد صديقه محمد أمزيان طالبي قرب محطة الحافلة ، وكأنه في انتظاره . تعانق الصديقان طويلا بعد هذا الفراق ، إذ أنهما لم يلتقيا منذ حصولهما على شهادة التحصيل بجامع الزيتونة و لقائهما مع العالم التونسي المتصوف . ولما أبصر محمد أمزيان طالبي صديقه محمد الصالح يحمل معه ذلك الكيس و الثورةُ مشتعلة حينها سأله : ماذا تحمل معك ؟ فرد محمد الصالح بقوله: إنني أحمل معي مشروع كتاب لطبعه هنا في الجزائر .. اكفهر وجه محمد أمزيان .. وعندها اغتاظ محمد الصالح ظنا منه أن صديقه محمد أمزيان حسده لأنه سيؤلف كتابا، وقال مخاطبا إياه : أَوَ تَحْسِدني إلى هذا الحد ؟ لكن محمد أمزيان راح يقول له : معاذ الله .. ثم ذكره بواقعة الدعاء التي تمت في تونس قبل سبعة أعوام مضت. و طلب منه بسرعة أن يتوجه معه إلى بيته ببوزريعة ، فإذا بمحمد الصالح الصديق يجد أن صديقه يمتلك فيلة جميلة في حي بوزريعة كما تمنى ذلك قبل سبعة أعوام !!. وقد وجدتُ أستاذي محمد الصالح الصديق أطال عمره يقول لي وهو يبتسم بعد أن قَصَّ علي هذه الواقعة المؤثرة: أخافُ الآن و قد حقَّقَ الله لي أمنيتي بتأليف المائة كتاب أن يأخذني إلى جوار صديقي رحمه الله الذي حقق له أمنية فيلة في حي بوزريعة . لكنني رحتُ أُطَمْئنِهُ بتلك المقولة التي قالها لي منذ أعوام : يا ولدي أكتب ..ثم اكتب ..ثم اكتب حتى تموت، كي لا تموت.. بقولي له : يا أستاذي لتواصل الكتابة فأمثالك خالدون ، وما هم بميتين .