هناك الكثير من الأعلام الذين لا يزالون في دائرة الظل، إلا من سخر لهم الله قلما من الأقلام، أو علما من الأعلام فيضيء ما تظلل، ويعيد تركيب ما تحلل فيظهر هذا العلم جليا بما قدمه لمجتمعه ووطنه، ومن جملة هؤلاء الأعلام، الأستاذ إسماعيل زكري الذي رحل في صمت حتى قيّض الله له من يخرجه من دائرة الظل إلى دائرة الضوء، وهو الأستاذ والباحث محمد أرزقي فراد، حيث قدمه في لقاء خاص نظمته ''الجاحظية'' لهذا العلم الثقافي الكبير، فماذا يقول الأستاذ أرزقي فراد عن هذا الرجل الراحل؟ انتقل الأستاذ إسماعيل بن محمد زكري، إلى رحمة الله، يوم 16 أكتوبر,2011 وبرحيله فقدت الثقافة الجزائرية أحد أقلامها الذين كرسوا حياتهم لخدمة الوطن وتاريخه وثقافته وهويته الإسلامية، في إطار نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أيام الاستعمار، ثم في الإطار المهني والعمل الجواري بعد استرجاع الاستقلال، عن طريق التعليم وفتح مكتبة عامة ونشر تراث ومخطوطات الأستاذ المصلح باعزيز بن عمر، وتقديم العون للباحثين العاملين في الحقل الثقافي. وبهذه المناسبة الأليمة، أتقدم إلى عائلته بأسمى عبارات التعازي، راجيا من الله أن يرزقهم جميل الصبر والسلوان وأن يسكنه فسيح جنانه، إنا للّه وإنا إليه راجعون.
نبذة عن حياته أود أن أشير في البداية إلى أن هذه المعلومات، مستقاة من مراسلة تلقيتها منه، خاصة بمختصر مسار حياته بطلب مني لغرض علمي. ولد اسماعيل بن محمد زكري في قرية ثاعروسث العريقة في العلم والتقوى، بعرش إغيل انزكري (دائرة إعزو?ن، ولاية تيزي وزو)، سنة 1925م، وقد أبدع أبو يعلى الزواوي في وصف هذه القرية التي ولد فيها هو أيضا، حين قال: »... هذه القرية التي ولدت فيها كانت كبيرة، سكانها شرفاء أهل كرم وخير، ومسجدها مرتب، فيه إمام وكان والدي رحمه الله إماما فيها ومؤذنا وموثقا، فموقعها الجغرافي عجيب، مستقبلة القبلة، لا تغيب عنها الشمس من مطلعها إلى غروبها، وحولها قرى القبيلة، وكان جملة عدد تلك القرى اثنتي عشرة قرية بين كبيرة وصغيرة عهدئذ، ويقدر عدد التلاميذ الذين يقرأون القرآن بمائة وخمسين والحفاظ منهم بنحو خمسين، وعندهم درس التوحيد والفقه على عهدنا منذ نحو خمسين سنة«. تعلم إسماعيل بن محمد زكري مبادئ القراءة والكتابة على يد والده الإمام ومعلم القرآن بإحدى قرى المنطقة، ومكث تحت إشرافه حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، وقد حفظ نصف القرآن برواية ورش وقالون، وكان يؤم المصلين في صلاة التراويح وعمره أربع عشرة سنة. انتقل إسماعيل زكري إلى المرحلة الموالية من التعليم التقليدي، وهي مرحلة الالتحاق بمؤسسة الزاوية التعليمية (يزد غ ثيمعمرث)، المتميزة بتوفير نظام الإيواء والإطعام للطلبة، وبنظامها الداخلي الصارم، المعتمد على الخدمة الذاتية، أي أن الطلبة هم الذين يتداولون على تسيير الزاوية من حيث رقابة الطلبة، وإطعامهم وتنظيف مرافق الزاوية المختلفة، وجمع أرزاقها ورعاية دوابها، وتعادل الزاوية، مرحلة التعليم الثانوي في وقتنا الحالي. زاول إسماعيل زكري هذه المرحلة في عدة زوايا، أولها زاوية ثيفريث ناث أومالك بعرش آث يجر، أين واصل حفظ القرآن، وتعلم مبادئ الفقه على يد الشيخ الربيع، ثم انتقل الى زاوية سيدي بهلول بقرية الشرفة (إعزو?ن)، وهناك أتم حفظ القرآن على يد الشيخ القاضي بن الشيخ، ومنها انتقل الى الزاوية الشهيرة سيدي عبد الرحمن اليلولي الكائن مقرها بعرش يلولة أومالو (ولاية تيزي وزو)، ونهل من علوم الشيخين الأزهريين أرزقي الشرفاوي والمولود الحافظي اللذين أحدثا إصلاحا تربويا بالزاوية، ثم شد الرحال إلى جامع الزيتونة بتونس سنة 1947م ومكث هناك إلى سنة 1950م.
انضمامه إلى التعليم الحر ولما عاد إسماعيل بن محمد زكري إلى أرض الوطن، استقر في مدينة الجزائر، وعين مدرسا في مدرسة التهذيب بحي بلكور (محمد بلوزداد حاليا)، لينتقل بعدها الى مدرسة بولوغين التي كان لها مسجد صغير ملحق بها، وهناك تعرف على الشيخ أحمد سحنون، وتوثقت عرى الصداقة بينهما. وفضلا عن مهمة التدريس، كان إسماعيل زكري يلقي دروس الوعظ والإرشاد في ذلك المسجد، ويؤم الناس في الصلاة أحيانا عندما يغيب الشيخ أحمد سحنون، وساعده استقراره بالعاصمة على ارتياد مقر جمعية العلماء، ومن ثم الاحتكاك بعلمائها والمتعاطفين معها منهم باعزيز بن عمر، وأحمد توفيق المدني، وعبد اللطيف سلطاني، وعمر العرباوي، والشيخ أبو يعلى الزواوي وغيرهم.
اعتقاله أثناء الثورة أدركت فرنسا بفطنتها، الدور الرائد الذي كانت مدارس جمعية العلماء الحرة تؤديه في مجال شحن تلاميذها ورواد نواديها بالروح الوطنية، لذا ضايقت الكثير من معلميها قبل اندلاع الثورة بطرق شتى، كغلق بعض المدارس، ومحاكمة معلميها محاكمة تعسفية وتغريمهم، بحجة ممارسة التعليم بدون رخصة، وبعد اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954م قامت الإدارة الفرنسية بتصفية حساباتها مع هؤلاء المعلمين، فاغتالت البعض منهم واعتقلت البعض الآخر، وكان الشيخ إسماعيل زكري ضمن الفئة الثانية واعتقل بمعية الشيخ أحمد سحنون ليلة 24 ماي 1956م، واستباحت القوات الفرنسية بيته ونهبت مكتبته الخاصة أثناء تفتيشه فضاعت بذلك كتب ووثائق قيمة لها علاقة بمساره التعليمي ونشاطه الثقافي. هذا وقد تنقل في عدة معتقلات منها معتقل بطيوة، ومعتقل سيدي الشحمي، ومعتقل الضاية (بوسوي سابقا)، ولم يطلق الفرنسيون سراحه إلا في 2 ديسمبر 1960م، لكن حريته لم تكن مطلقة، إذ فرضت عليه الإدارة الفرنسية تسجيل حضوره لدى مراكز الشرطة والجيش، في كل أيام الأسبوع (ماعدا السبت والأحد).
علاقته بالشيخ أبي يعلى الزواوي يعد الشيخ أبو يعلى الزواوي أحد أعلام الحركة الإصلاحية في الجزائر، برز اسمه قبل تأسيس جمعية العلماء، عن طريق الكتابة الصحفية، وتأليف الكتب. ورغم أن الرجلين ولدا في قرية واحدة (ثاعروسث) كما سبق الذكر، فإن العلاقة المتينة لم تبدأ بينهما إلا بعد مراسلة الشيخ أبي يعلى الزواوي، لإسماعيل زكري، وهو طالب في جامع الزيتونة، طالبا منه الإشراف على تصحيح كتابه الموسوم ''جماعة المسلمين''، الذي كان تحت الطبع بمطبعة الإرادة بمدينة تونس سنة ,1948 ثم توثقت عرى التعارف بينهما خلال العطل الصيفية التي كان يقضيها إسماعيل زكري الطالب بمدينة الجزائر، وقد أكد ذلك بقوله: »... ولم يتم التعارف بيننا عن قرب إلا في أول عطلة صيفية لي في العاصمة، وكان أولَ من زرته في منزله أو شقته الضيقة بعد حلولي ضيفا على الشيخ المرحوم باعزيز بن عمر... كنت أزور شيخنا (أبا يعلى) كل جمعة صباحا على أبعد تقدير، ولا نفترق في أغلب الأحيان إلا في المساء«. وكشف لنا إسماعيل زكري جانبا من يوميات أبي يعلى الزواوي قائلا: »... كان من عادة الشيخ أبي يعلى أن يجلس أمام الدكاكين بشارع ''الباب الجديد''، غير بعيد عن مسجد سيدي رمضان في أعالي القصبة، فوق مقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي، حيث يعد له صاحب الدكان المصلح أريكة خاصة به، وهو في لباسه التقليدي الناصع البياض، الرائع الجمال والوقار، يجلس منفردا أحيانا يتصفح الجرائد اليومية كل صباح، ومعه بعض خواصه أحيانا أخرى، يحدثهم عن شؤون الدين والحياة«. وعقب وفاة الشيخ أبي يعلى الزواوي، كتب عنه إسماعيل زكري مقالا تأبينيا مطوّلا نشره في جريدة البصائر، بعنوان:''إلى عالم الخلد يا أبا يعلى الزواوي'' اقتطفت منه الفقرة التالية: »... مات أبو يعلى فبكاه الإصلاح والمصلحون في الأمة الجزائرية التي كان في الصف الأول من مصلحيها وعلمائها العاملين، ومن البناة لنهضتها الأولى، ومن الساعين في تأسيس جمعية العلماء والعاملين معها حتى الشيخوخة والهرم، حتى لقبه بعض من يقدره من المنصفين ب''إمام المصلحين'' والبعض الآخر ب''شاب الشيوخ''، وبكاه غير الجزائريين أيضا، فقد كان معروفا في غير الجزائر، وهذا صديقه شكيب أرسلان رحمه اللّه قد أعجب به، وأثنى على خدماته الاجتماعية ثناء منصفا نزيها، في رسائله الخاصة إليه التي أطلعني على بعضها وهي بخط يده، كما كان على اتصال دائم مع أقطاب الإصلاح في الشرق أمثال الأستاذ رشيد رضا، ومحب الدين والشيخ الطاهر الجزائري''. هذا وقد قام الأستاذ إسماعيل زكري من باب الوفاء لرواد الإصلاح، وإحياء تراثهم الفكري، بإعادة نشر كتب أبي يعلى المفقودة في الأسواق وهي: 1 جماعة المسلمين، دار الحبر، 2006م. (صدرت طبعته الأولى سنة 1948م بتونس). 2 خطب الجمعة، دار الحبر، 2007م (صدرت طبعته الأولى سنة 1924م بالجزائر). 3 الإسلام الصحيح، دار الحبر، 2008م. وشحه د/ أبو القاسم سعد الله بكلمة التصدير (صدرت طبعته الأولى سنة 1926 بمصر).
علاقته بالأستاذ باعزيز بن عمر باعزيز بن عمر لمن لا يعرفه، هو أحد أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين البارزين، كان محررا في جريدة البصائر، ومجلة الشهاب، وهو أحد أساطين التربية والتعليم، ترك عدة مؤلفات، بعضها مطبوع والبعض الآخر مخطوط. وهناك أواصر القرابة بين الرجلين، فأم الأستاذ باعزيز بن عمر من عرش إغيل انزكري، وعليه فهو حفيد إسماعيل زكري. ثم توثقت هذه الأواصر أكثر بعد زواج إسماعيل زكري بإحدى بنات الأستاذ باعزيز بن عمر. ويعود الفضل في نشر تراث هذا الأخير إلى جهود إسماعيل زكري الذي عاهده على إتمام ما خطه من الأعمال الفكرية، حين كان على فراش الموت: » ... يضطرني واجب الوفاء لأستاذي الأديب الكبير المرحوم باعزيز بن عمر، إلى نشر بعض ما تركه من مخطوطات أو كلها إن وفقني الله وأمد في عمري بعد أن عهد إلي ضمنيا أن أقوم مقامه، وذلك في آخر جملة وجهها إليّ، وهو في حالة الاحتضار إجابة عن قولي له: إنك اليوم خير من الأمس وأحسن حالا على ما يبدو - وكان الوقت مساء ليوم 6 ماي 1977م - ولكن لا مانع أن توصيني بما يعن لك من الشؤون، وتنصحني بما يجدي الجميع نفعا، فقال بصوت خافت: قم مقامي، ولم يزد حرفا واحدا حتى فارق هذه الحياة إلى الرفيق الأعلى في نفس ليلة ذلك المساء''. وهكذا لم يدخر الأستاذ إسماعيل زكري أي جهد من أجل الوفاء بوعده وعهده، ورغم صعوبة المهمة فقد نجح بفضل الله في طبع معظم أعمال باعزيز بن عمر، وهي على النحو التالي: 1 الجزائر الثائرة (مسرحية تاريخية)، طبع على نفقة وزارة الثقافة سنة 2003م. 2 رحلتي إلى البقاع المقدسة، طبع على نفقة المجلس الإسلامي الأعلى، سنة 2005م. 3 من ذكرياتي عن الإمامين الرئيسين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، منشورات الحبر، 2006م. والجدير بالذكر أن إسماعيل زكري قد ساعد الباحث محمد مراح في إنجاز عمل علمي حول باعزيز بن عمر بعنوان: ''باعزيز بن عمر حياته وفكره الإصلاحي''، وفي نشره أيضا في دار الحبر سنة 2010م. وشاء القدر أن يرحل إسماعيل زكري، بعد أن قام بنشر الكثير من أعمال الأستاذ باعزيز بن عمر، وقطع شوطا كبيرا في جمع مقالاته المبثوثة في مختلف المنابر الصحفية وهي كثيرة. فرحم الله أستاذنا إسماعيل بن محمد زكري، الذي وقف حياته على العلم والتربية والكتابة، ونشر وتعميم الكتاب.