ماتزال عاصمة المكرّة فاتحة ذراعيها وأبوابها لاحتضان فعاليات عرس ثقافي في حلّة المهرجان الثقافي المحلي للمسرح المحترف في دورته الخامسة في محور النقد المسرحي اليوم الثالث من أجواء التظاهرة. عرف في صبيحته مناقشة عرضي " الرحلة 03 " لتعاونية الكانكي للفنون من مستغانم وعرض " غدر امرأة" للجمعية الثقافية جيل الظهرة بالتنسيق مع جمعية النوارس من غليزان بحضور الأساتذة " بوخموشة الياس" ، " خرواع توفيق " ، " سمير بوعناني " و" إبراهيمي سماعيل" المناقشة في صبيحتها عرفت كالعادة حضور أطراف كلّ عرض وفتح مجال النقاش الذي لابدّ أن يكون حوارا بنّاء نستشف من خلاله الاحترافية في التعامل مع العروض المسرحية التي رفع عنها الستار ، ومع ذلك لمسنا بعض الانحياز لبعض الأطراف من لدنّ الأساتذة الذين من المفروض أن يكونوا حياديين في أحكامهم إن كانوا فعلا أهلا للثقة وللممارسة النقدية للوقوف عند معايير النّقد البنّاء الموضوعي الهادف لا الهدّام ، وهذا يحسب ضدّهم لا لصالحهم بخاصّة وأن السيد " بن صابر جمال " في عرض " الرحلة 03" قدّم عرضا لايمتّ بصلة الى مقياس الاحترافية فجلّ العرض المسرحي كان لوحات راقصة خالية من الفعل الدرامي ،وبحكم أقدميته في الفعل المسرحي تمّ الرّفع من شأن عمله أين لا تعدّ الأقدمية مقياسا بل المتلقي في مسيس الحاجة الى إبداع ، في الوقت الذي تمّ فيه الحكم على الآنسة " فلاح حورية فلة " مخرجة عرض " غدر امرأة " أنّ عرضها كان أكثر واقعية وغابت فيه بعض الجماليات ،وفي حقيقة الأمر أن العرض قد كان متنفسا في يومه الثاني ليكون فأل خير في انتظار عروض مقبلة أكثر تنافسا وحرفية على الرّكح ، يفتح هنا قوس لنشير أن المعيار الذي اعتمده الأساتذة كان ذاتيا محضا وانحيازيا لطرف معين في حجم " بن صابر" أين غيّبوا عنصر التشجيع لسيدة في مقتبل مشوارها الفنّي وقد بذلت وفريقها جهدا ومنحت الحضور بعض الجمالية في لوحات العرض حتّى وان سجّلت بعض الملاحظات ضدّ عملها المسرحي ، نشير هنا أن الذاتية والميول الشخصية بحكم الأسماء والخبرة حسب معتقدات بعض الأساتذة قد تكون السبب الأساس في الشّرخ الحاصل لعدم اعتماد سياسة نقدية بنّاءة في الوطن العربي فما بالك في الجزائر التي من المفترض أن تكون السبّاقة لوضع حدّ مثل هذه الملابسات . في ذات توقيت مناقشة العروض المسرحية ، تواصلت فعاليات ورشة النقد المسرحي بإشراف دكتور الدراما الناقد الفلسطيني " نادر القنّة" بمعية طلبة قسم الفنون الدرامية ، ليثار موضوع النّقد في مفهومه العام ّ والوقوف عند مصطلحات الكلمة والمراحل التي يجب على الناقد اجتيازها للوصول الى تمحيص وغربلة أيّ عمل فني وهي في الأساس أربع مراحل لتكون المحطة الأولى التفسير ثمّ التحليل ، ليليهما التقويم ومن ثمّ التقييم ليكون هذا الأخير مقياسا نسبيا كما النقد حتى لا نسلّم بالمطلق ، المميّز في ورشة النقد المسرحي الشفافية السائدة والجوّ العلمي الاحترافي ولغة التواصل القائمة على مبدأ الحوار التي تجمع بين جموع الطلبة والدّكتور " نادر" الذي تلمس لديه أملا واعدا وتستنبط لدى الطّلبة شغفا وتعطّشا لرؤى متجدّدة وطرحا جريئا لمسائل نقدية تثير الكثير من الجدل وتفتح أمامهم أبواب الاجتهاد ورغبة في المضيّ قدما لتجديد وتقويم مسارهم الأكاديمي الذي يرجون من ورائه التطبيق الميداني لكلّ زادهم ومعرفتهم . صراع في وسط المجهول الفترة المسائية من فعاليات المهرجان في يومه الثالث عرفت تواصلا مع الرّكح واستنطاقه دراميا مع العرض الأول لفرقة الرسالة الفنية التابعة للجمعية الثقافية للشباب والطفل من سيدي لحسن من سيدي بلعباس بعرض " فجر إبليس" . العمل المسرحي أشرف فيه على الإخراج والسينوغرافيا الشاب الواعد " بن سالم محمّد بشير" أين كان العمل المقدّم عبارة عن ديو دراما تقاسم أدوارها كلّ من " لكرون لانس أمينة " المعروفة فنيا ب " نيسا " و " نعيمي محمد ربيع" ، الأحداث دارت وسط منزل كان مشحونا بالصراع ورحلة وسط المجهول ذا المعالم المتفرقة بين ضفتي الحب والخيانة المبرّرة في قالب ضحية ، أين كانت " بدرانة" رقما إضافيا في عالم حواء يضاف الى سلسلة العبث بالشرف واغتيال البراءة في رحم المعاناة التي كانت ولا تزال سرابا ووهما لم يوار بعد . وحينما يغتال الشرف على حين غرّة هنا تحدث المفارقة للمطالبة بقصاص ربّما سيكون إجحافا في حقّ حوّاء التي لابدّ أن تبرّر مواقفها ، ذاك القصاص باتجاهاته ما هو إلا عنوان وطن لا يزال يرى أمانيه من زاوية مظلمة ، السينوغرافيا المنتقاة بدقّة والموسيقى الموظفة بعناية للتّونسي " أنور إبراهيم" شخّصت معاناة بدرانة ضحية الاغتصاب الوحشي من مجهول دقّ بابها وزوجها غارق في معاقرة الخمر ، أين كانت " نيسا" حاضرة بقوة لتوظف صورة الاغتصاب بأسلوب درامي وجمالي اختصر الزمن والمكان في الآن ذاته . القصاص الذي طالب به أهل القرية نايف للثأر لشرفه كما يزعمون جعله بين نارين ، بين نار مسامحة من يحبّ ونار الانتقام من المجرم ، وفي الحالتين سيغدو خاسرا هو الذي يجب أن تعلّق له شارة الرجولية في زمن العبث والشعارات الجوفاء ، أين كان لابدّ أن يقتسما القصاص سوية باعتبار أنّ له طرفا في ذلك . المؤامرة التي حبكها مغتصب زوجته " راجي" بمعية عشيقة " نايف" اتّضحت خيوطها وتبدّدت الشكوك خلفها ، حينما كان القصاص أمرا حاصلا وحلاّ إجباريا بخاصة وأن " بدرانة" تحمل في أحشائها بذرة الاغتصاب في وقت أملت أن تحبل من زوجها لتسمّيه نوّار أو نوّارة، ولمّا تقلّبت الأقدار أصرّت على اسم ندى لأنّها من ماء ، وراح " نايف" يقنع " بدرانة" بالحلول المتوقعة لتغطية الجرم ومن بينها كان الشنق الصّوري فكان له ما أراد وفارقت الحياة ، وهو يحملها بين ذراعيه أسكتته طلقتين من " راجي" ليعدّ هذا الأخير شهما في زمن بات يؤمن بالميوعة والعبثية . لتكون " فجر إبليس " معادلة محبوكة واغتصابا للقيم والمبادئ ، اغتصابا لنور براءة أخمدت انعكاساتها ، واغتصابا لأنبل شعور في زمن راح يدنس كل ما هو جميل ووجدانيّ وقد أجاد الثنائي في رفع الجمهور دراميا بحضورهما على الركح وإتقانهما اللّغة الفصيحة التي كانت شاعرية ومضبوطة في لوحات العرض. وككلّ عرض مسرحي لا يخلو من الملاحظات إذ أنّ الموضوع المعالج في العرض المسرحي كان موضوعا متداولا إذ أثير موضوع الاغتصاب والمغتصبة ههنا لم تكن مذنبة بقدر ما كانت ضحية ، ومع ذلك قد عولجت دراميا بأسلوب سلس وهادئ لكن العرض وككل العروض السابقة المتنافسة لم يتّخذ منحناه الإنساني ، ورغم ذلك يعدّ عملا فنيا راقيا من حيث الحبكة الفنية والاشتغال الدرامي . وفي نهاية العرض تمّ الأخذ برأي أحد الأساتذة المهتمّين بالفنّ الرابع الذي صرّح أن المسرحية ذات ذوق وحبكة درامية ، أتت على هدوء وأداء الممثلين كان مقبولا جدّا والمميّز أنّ اللغة العربية جاءت مضبوطة الى حدّ كبير ، فالثنائي قد حقّق المتعة الفنية . ومع ذلك فانّ المأخذ الوحيد هو أنّ المواضيع ليست مواضيع البعد الإنساني فقضية الاغتصاب قضية متداولة منذ زمن والشخصية لم تكن لها يد في ذلك ، فليس في الأمر إبداع ، الإبداع أن يقدّم الإنسان شريرا . كما أشار الى أنّ عدم الوصول الى البعد الدرامي بالمستوى الثقافي العام للجزائر مستوى ضعيف، والحبكة الدرامية لا تدور حول بعد إنساني والشّرور المدبّر ، الشافع الوحيد للعرض إحسان اللّغة وأداء الثنائي الذي كان في القمّة مقارنة بالعروض السابقة ، كما أثار قضية الطقوس المعتمدة في المسرح والمعروف بها ومن دونها لا يعرف كالحوار والشخصية بملابس معينة حيث لابدّ أن تكون الملابس المصاحبة للعرض خاصة به ولا تستعمل في فضاء غير فضاء الرّكح وهنا الشرخ الحاصل المسمّى باللاّزمنية وههنا تثار قضايا التكوين المسرحي . المعادلة العميقة ليكون الجمهور في السهرة على موعد مع العرض الثاني الموقّع من لدنّ جمعية البسمة للمسرح والفنون الدرامية من حمّام بوحجر بالتّنسيق مع تعاونية كاتب ياسين للمسرح من سيدي بلعباس ليرفع السّتار عن عرض " البعدان" المقتبسة عن مسرحية " الكراسي" ل " جوزين يونسكو" . " البعدان" من اقتباس " بوحجر بوتشيش " وإخراج " لصفر بخالد" وسينوغرافيا ل " هوناني خالد " جاءت فيه أوجه الصراع الدرامي قائمة بذاتها من حيث رسم معالم التّعاطي في الرّؤى بين آدم وحواء اللّذين ظنّا أن العلاقة مبنية على انسجام جسدي وروحي فقط دون انتظار البديل أو ثمار تلكم العلاقة ، أين حصرهما الزّمن عقودا متتالية بين جدران الصّمت العقيم والتحفّظ القاتل . أين كانت " ابن شعبان حنان " و" بوتشيش بوحجر" طرفان في معادلة عقيمة نتيجتها صراع أبديّ في ظل الطرح والجمع لقضايا عبثية تحاكي الموت والحياة ، وتجادل الأمل والألم ، ليكون العقم ذريعة في ظلّ تغطية أسس الحوار البنّاء في هرم العلاقة ، لتكون الأنانية من آدم الأمر الطاغي والحاصل المشترك لرفض مبدأ منح الحرية للآخر ، فالعقم ههنا كان جدلا ذاتيا وعقما في الحوار الهادف . ليظلّ البناء الدرامي قائما بذاته مع الثنائي الموقع لعلامات النقط المتتالية في سلّم أفقي تحكمه دعائم الوجود واللاّوجود، ليكون كلّ "حسّاني حميدو" و" عبد الله بن عبد الله" بمثابة الأنا الباطن لآدم وحوّاء لتحيّن فرصة التحرّر الأخير من كليهما بحكم العمل على الكوريغرافيا لديهما بأسلوب دراميّ مميّز تشخّص في الحلّ المبدئي لصراع قائم وسيظلّ كذلك باعتبار ضمير كل من " حنان " و" بوحجر" . وحواء بحكم أمومتها الفطرية طمعت في ميلاد جديد في أحشائها من ضلع من أحبّت ، ليكون الوهم صارخا ومجسّدا في العلاقة الضاربة في الأعماق والحميمية المطلقة كتلك التي بين التراب والماء في زمن الميوع والانجراف الذاتيّ غير المبرّر في محاولة يائسة لكسر جدران الصمت المشمّع بالآهات . ههنا اقتحم " مربوح عبد الإله" عالمهما المشحون مكسّرا الصمت السائد ومبدّدا الحزن الغالب على حياتهما الروتينية لتقلب الصور وتوضع نتيجة المعادلة المتطرفة على طرف خيط من الأمل لتكون الكوريغرافيا لمسة إضافية وصارخة لإمضاء نهاية ما يزال يحكمها الصراع الغارق في وحل الدماء والألم ، لتتشبث " حنان" به وتتخذه ولدا بعد أن بلغت سنّ اليأس ودفنت فيها بذرة الأمومة . " البعدان" كان عينا على صراع عقيم ، عقم أمّة عربية لم تعد تحتفي بميلادها النضالي ولا بميلاد جيل واعد ، والصراع ذاك تناغمت فيه أجساد الممثلين على نوتة من الإحساس المرهف الممزوج بالألم الدّفين ، أين اغتسلوا بالعرق عربون جهاد دائم في الحياة وتشبثوا بالتراب رمزا للوجود ، ولامسوا قطرات الماء النابض بالحياة كما جريان السيل وسط موسيقى صوفية منتقاة بعناية ل " تعمورت عبد القادر" وتوظيف الإضاءة ل " موسى محمد" . ليكون عرض " البعدان" لوحة فنية تمازجت فيها الألوان لتوقع ميلادا آخر لمسرح احترافي واعد بلمسة الشباب الذي يتقن الجمع والطرح ، كما الضرب والقسمة في معادلة التشبث بالأمل مهما كان الوصول إليه شاقا . وعليه ، فانّ عرضي " فجر إبليس " " البعدان" كان ضمن رزنامة اليوم الثالث من المنافسة متنفسا ووصمة أمل نحو رفع الستار في الأيام الباقية من عمر المهرجان نحو احترافية جادّة للظفر بتأشيرة المرور الى ركح محيي الدّين بشطارزي بالجزائر العاصمة .