ككل المدن الجزائرية تتوفر مدينة معسكر على عدة ساحات عمومية، يفوق عددها 23 ساحة، ولكل ساحة قصة بل قصص قد تتقاطع في بعض الخصائص، لكنها أبدا لن تتشابه، ورغم أن تتبع قصص ساحة بعينها يبدو صعب المنال على من لم يعايش أحداثها، ويعاصر كل التحولات التي طرأت على المكان والإنسان ونشاطاته عبر الحقب، إلا أننامضطرون إلى مسايرة برمجة مثل هذه المواضيع علهاتفيد في تفادي أخطاء الماضي وبالتالي الحرص على أن تكون التحولات الطارئة على ساحاتنا، نحو الأفضل والأرقى والأنفع والأمتع، على الأقل حتى لانسهل مهمةأسري الحنين إلى الماضي الإستعماري لهذه الأماكن العمومية.. ولذا نأمل أن تكون الأشغال الجارية حاليا لإعادة تهيئة ساحة الأمير عبد القادر وسط مدينة معسكرفي مستوى الخمسة ملايير سنتيم تقريبا المرصودة لها وللتمثال البرونزي للأمير عبد القادر الذي سيتوسطها وذلك لإسكات المتباكين على »جمال ساحة ڤانبيطا« من الأقدام السوداء، و»بيضهم« الذين خلفوه وراءهم وبدأ يفقس بعدهم في مختلف مدن الجزائر، وننصح كل هؤلاء وأولئك بأن يقتصدوا في ذرف دموعهم، لأن الجزائريين سيواصلون هدم كل بناية كولونيالية، من أجل توسيع طريق أو إنجاز مرفق عام أهم أو إزالة خطر محتمل، وليسوا في حاجة إلى ترخيص لذلك من أي كان، فضلا عن أن الارث المادي الكولونيالي، هو من الكثرة بحيث لا نخشى عليه الأنقراض والنقاذ في أجل قريب. وإذا كان لنا الخيار في اختيار الساحات الأكثر رسوخا في تاريخ مدينة معسكر، لاخترنا دون شك ساحة العرقوب لأنها كانت المركز التجاري بلا منازع حتى قبل احتلال الفرنسيين للجزائر، وبالتالي فهي ساحة جزائرية عربية المائة بالمائة وكانت تمتد من دار الحكم الإداري »مقر الغرفة الفلاحية. * وللعرقوب قدم السبق ففي هذا الحي وساحته، تكونت الطبقة البرجوازية والمتوسطة التي أعطت لمدينة معسكر، مكانتها التجارية بعث يستفاد من تقرير بعث به إبراهيم باي إلى الوالي العام الفرنسي بالجزائر في 19 نوفمبر 1835 عندما كان واليا على مستغانم، أن سوق معسكر استعاد نشاطه الذي كان عليه من قبل«.. ويضيف في نص ملحق أن أعيان المخزن بالمدينة يمتلكون 83 مسكنا يضاف إليها مائتي (200) مسكن يمتلكها الدوائر والزمالة بحي عرقوب إسماعيل، كما أن نصف مباني المدينة يملتكه الأتراك، زيادة على المحلات التجارية والحدائق التي يفوق عددها بكثير عدد السكنات التي لم يشر سوى لجزء منها في تقريره، علماأن الباي إبراهيم كان يطمع في أن توليه فرنسا على مدينة معسكر، عارضا عليها خدماته في حالة احتفاظها بعاصمة الأمير عبد القادر بعد سقوطها في أيديهم عام 1835. وفي نفس الفترة، يصف »تاتارو« المدينة فيشير إلى وجود عدة أسواق كانت تقام أيام الجمعة، السبت والأحد، بساحة العرقوب منهاسوق الخضر والفواكه والبقول ومختلف المواد الغذائية، إلى جانب البارود، وقشور الرمان المستعملة في صناعة الصباغة الصفراء، وسوق أخرى مختصة في اللحوم بجوارها فندقان يأوي إلى أحدهما زوار المدينة القادمون من تلمسان ومن المغرب الأقصى فضلاعن العديد من الإسطبلات التي حول المستعمرون بعضها إلى ثكنات عسكرية. كما كانت هناك سوق مكشوفة، تعرض فيها الأصواف والأفرشة والجلاليب والبرانيس والزرابي القلعية فضلا عن المصنوعات النحاسية والخشبية والأواني المصنوعة من ظفائر الحلفاء والدوم والأواني والأدوات الجلدية ومصنوعات الحدادين وحرفيي الطرز بالخيوط الحريرية والذهبية والفضية وكانت أشهر الأسواق على الإطلاق، سوق البرنوس ولاسيما منه البرنوس الزغداني والخيدوس وهما ماركتان مسجلتان لحرفيي ذلك الوقت، وكانت هذه البرانيس والجلاليب أيضا تنسج بمناسج خاصة في البيوت، لتعرض للبيع في السوق، محمولة على الأيدي، كما يفعل اليوم باعة الألبسة في الشوارع. ومن أعيان المدينة من تجار ساحة العرقوب في الثلاثينيات من القرن الماضي، الذين احتفظ التاريخ بنشاطهم، السيد خليل أحمد، والأخوة بن مغنية لخضر وبن علي ومسلم عيسى مع أخيه، والذين كانت لهم محلات لبيع مختلف المواد فضلاعن استعمالها مقرات للنوادي الرياضية، مثل محل بن مغنية بن علي، الذي كان مقرا لفريق غالي معسكر عندما كان صاحبه رئيسا للنادي في الثلاثينيات، بينما اشتهرت عائلة مسلم ببيع الشعير علما أن هؤلاء اشتهروا أيضا بنشاطهم الإصلاحي في جمعية العلماء المسلمين إلى جانب نشاطهم التجاري. بعد هذا المدخل المطول إلى ساحة العرقوب، يمتد إلى »ساحة الركابة« التي تعتبر ساحة حديثة النشأة نسبيا، إذا ماقورنت بسابقتها، غير أنها فرضت نفسها بحكم بساطتها أولا ثم بموقعها الذي يتوسط مدينة معسكر، فضلاعن أسواقها القارة والمناسباتية، ومرافقها الخاصة والعمومية وحتى منجزاتها القديمة والحديثة » فالركابة« تسمية عامية لمكان الركوب لأن كل من يريد السفر إلى أي مكان وفي أي اتجاه، كان مضطرا الى التوجه إلى هذه الساحة،حيث موقف حافلات النعيمي وخليل و... المتوجهة إلى المدن المجاورة ومدينة بوحنيفية على وجه الخصوص. * من يتذكر كاليش بوراس؟ وحيث عربات الحمالين التي تجرها الدواب تنتظر لتقديم خداماتها الى المتسوقين، وهي الكراريس التي ظلت نشطة لعدة سنوات بعد الإستقلال، ولاسيما أيام العيد، عندما تستعمل لنقل الأطفال جماعات، جماعات في جولات تنطلق من الركابة وتعود إليها مرور ببعض الشوارع المجاورة، ولعل أشهرها الذي علق بذاكرة أطفال ذلك الوقت »كاليش بوراس« الذي ظل إلى غاية الستينيات يفرح الأطفال في العيدين بجولة قصيرة مقابل (دورو واحد) آه كم كانت الفرحة آنذاك رخيصة الثمن يا زمن. عندما أشاهد الصور القديمة »للركابة« أحمد الله كثيرا لوجودها في الحي العربي للمدينة إبان الحقبة الإستعمارية ولأن النشاط التجاري للعرب في هذه الساحة هو الذي أعطاهامكانتها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والترفيهية، وكان الكولون ينتفعون من كل ذلك وزيادة في الإستمتاع بسحر المكان، حوّلوا ملتقى شعبة سيدي بوسكرين وشعبة وادي تودمان إلى حديقة عمومية سموها »البرومناد« ثم حديقة باستور بعد ذلك وبممرها الرئيسي كانوا يقيمون حفلاتهم الراقصة.. ثم ألحقوا بها لحديقة الأطفال المستغلة كدار حضانة. * براريك الإستعمار لتنظيم التجارة وللفصل العنصري، أقامت السلطات الإستعمارية بابا يفصل الجزء الأوروبي عن الحي العربي، وكان هذا الباب بمدخل طريق وهران شارع العربي بن مهيدي حاليا وهو الباب الذي أصبح مدخلا »لساحة الركابة« التي كانت آنذاك إلى غاية الأربعينيات وبعدها عبارة عن »أرض بيضاء« من السور القديم لضريح سيدي بوجلال إلى شعبة طريق الوادي، مرورا بشعبة سيدي بوسكرين التي يعلوها جسر »لوبو« الذي كان يربط بين الجزائريين الشرقي والغربي للمدينة، وفي هذا الفضاء الوعر كانت هناك »بطحاء« (حيث الخزينة الكهرباء) ظلت إلى عهد قريبا مسرحا لألعاب الفروسية، فضلاعن إقامة الحلقات المعروفة في التقاليد العربية والتي عادة ما تنال إعجاب السياح وحتى الكولون كحلقات عيساوة، وحمداوة، والحكواتيين، الى جانب باعة الأعشاب ومواد الطب البديل، وكل بضاعة يمكن أن تجد لها مشتريا في ذلك الوقت، علما أنه إلى اليوم مازال مقهى يعرف »بمقهى حمداوة« يعمل في شارع الأمير عبد القادر »الطريق الكبيرة« محتفظا ببنائه القادم والبسيط للغاية. إن ازدهار النشاط التجاري في هذه الساحة فرض على السلطات الإستعمارية التدخل لتنظيمه (إذا جازلنا إستعمال هذه الكلمة) لأن كل ما فعله المعمرون هو بناء صفين من البراريك متقابلين أحدهما بواجهتين والآخر ظهره إلى شعبة عميقة شعبة طريق الوادي، وصف رابع من البراريك على طول طريق الجزائر العاصمة، ثم مجموعة أخرى من البراريك في شكل دائري وكانت تسمى أصلا »بالدويرة« مخصصة لبيع الخضر والفواكه. وبالصف المحاذي للشعبة، أقيم »مسجد« »سي صافا« رحمه الله، وقد أسندت البناية إلى عمودين فقط يصعدان من قاع الشعبة، وقد اعتبر انهيار هذه المسجد في السبعينيات »معجزة« لأنه لم يقع إلا بعد أن خرج آخر المصلين الذين أدوا به صلاة العصر وبالتالي لم يؤد الحادث الى خسائر بشرية. نعم، من حق أي شخص أن يسترجع ذكرياته في هذه البرايرك أو مع أصحابها، مثل سي الجيلالي البوشي وهوايته في نظم الشعر الملحون، وولد رمانو وزلابيته اللذيذة، و»اللاي« وأطباقه من »اللوبيا والحمص، التي اشتهر بها وما من تلميذ درس بمعسكر وفي جسمه شيء من وجبات« مطعم اللي. وتضيف أولاد بادري بمحلهم وبضائعه المتنوعة، وكذا بلخير، المختص في »الحمص المطبوخ بأرجل البقر« والذي كان يعطر بهذا الطبق كل مساء ساحة الركابة بعربته المدفوعة أمامه، بحركات لا تتغير، إلا نادرا، وزد إليهم أولاد قمح، والحاج إبراهيم بلبية وغيرهم كثير ممن يحق تذكرهم، وتذكير شباب اليوم خاصة بأن أسلافهم هؤلاء كانوا »يحصلون على قوتهم بعرف جبينهم« ولا ينتظرون من يتصدق عليهم بمنصب عمل »شكلي«... ومن حق أي شخص كذلك أن يتذكر، بعض صور طفولته أو مراهقته أو أي مرحلة من حياته، وهو يتردد على قاعة سينما »أولاميبا« وما كان يجاورها من اسطبلات ومحلات ومقاهي، والتي أزيلت كلها في عهد الإستقلال لتوسيع الطريق، نعم من حقناأن نتذكر »الأفلام الهندية« التي كثيرا ماكانت تعرض في هذه القاعة السيمنائية، ولكن دون بنايات قديمة معظمها كان مهددا بالإنهيار، وكانت في الموقع غير المناسب فأزيلت وكفى. * فضل الإستقلال على (الركابة) في أرشيف الحقبة الإستعمارية ساحة بهذا الإسم، فالإستقلال هو الذي أعطى لهذه الساحة شكلها العمراني الجميل الحالي، إذ في هذه الفترة تم ردم الشعاب التي كانت تخترق الساحة وتغطية وادي تودمان، وبناء السوق المغطاة بعد إزالة »براريك الإستعمار« وتهيئة الساحات المحاذية للركابة مثل ساحة النعيمي عبد القادر، وتزيين الساحة بعدة نافورات مائىة جميلة أنجز إحداها المرحوم ملياني بن علي، ولكن »لا أحد نبي في قومه« على رأي المثل، إذ ينبغي أن يبنيها »المعمرون« لتوقظ حنين بقايا الطابور الخامس. ونكاية في هؤلاء، واصلت الجزائر المستقلة، تطوير الساجة و تزيينها، بأنجاز ممر تحت أرضي يخترقها (الساحة) من أقصاها إلى أقصاها، ويتيح توسيع المساحات الخضراء بها ويجعلها فعلا جديرة بحمل اسم العلامة عبد الحميد بن باديس، وبمسجد الإصلاح الذي يشرف عليها من الجهة الغربية بعد أن ظلت لسنوات محطة لركوب المسافرين سواء بواسطة الحافلات العمومية أو حافلات الخواص، أو سيارات الأجرة، فكل هذه الوسائل كانت تنطلق وتنتهي من وإلى الركابة، الى غاية 2003 تاريخ فتح المحطة البرية بخصيبية، والمحطة الثانوية بساحة الشيخ الوجدي، إذ لم يبق بالركابة حاليا سوى سيارات الأجرة الحضرية.. * مشهد مثير للصائمين في الركابة والحديث عن الركابة مازال طويلا ومتشعبا، إذ لم أتحدث عن المرحوم »نينو« ومعركته ا ليومية مع الكلاب الضالة ولا عن قصرعيشوش والباي بوشلاغم ولاعن ضريح ومسجد للشيخ بوراس وزواره الذين لاينقطعون عن التردد عليه، ولا عن حمام الزجارة بمدخل الطريق الكبيرة، المعلم الآخر الأشهر الآخر الأشهر من الركابة ذاتها والأقدم وجودا منها، ولا عن محلات دبي الحديثة، ولا عن دارالصناعات التقليدية، ولا عن »الكوري« الإسطبل الذي مازال يؤدي بعض وظائفه القديمة، ولا عن تمثال »الخام« واختفائه الغريب من حديقة باستور، دون أن يثير اهتمام أحد.(عفوا، ماعدا وزير الشؤون الدّينية الذي استفسر عنه في أفريل الماضي) الأكيد أن هناك المزيد من الأشياء والأشخاص الذين يستحقون الحديث عنهم لارتباطهم بالركابة ونشاطها، ولكن لن اختم هذا الحديث، دون أن أشير إلى هذه » الركابة« في شهر رمضان المبارك الذي على الأبواب، إذا في هذا الشهر الفضيل، تتحول الركابة والطريق الكبيرة، قبيل الإفطار وطيلة أيام رمضان، إلى قبلة لمئات وربما آلاف الصائمين الذين يقصدون المكان على غير موعد، يجوبونه ذهابا وإيابا، ليس لغرض معين ومقصود، وإنما فقط لانتظار وقت رفع آذان المغرب، ولكن ذلك لن يمنعهم من شراء بعض ما يعرضهم عليهم الباعة من أنواع مختلفة من الخبز المحضر بطريقة تقليدية، أو مشتقات الحليب الطازج، أو الحلويات الشرقية، والمشروبات وماشابه ذلك من مشتريات آخر لحظة. إنه مشهد يتكرر مغرب كل يوم من رمضان، ويحتاج حق إلى فنان ماهر يخلده في لوحة زيتية بل وفي لوحات كثيرة ستبقى إرثا فنيا للأجيال، وما يريد الإستمتاع بهذا المنظر فليلتمسه من بعيد من شارع العربي بن مهيدي، علما أنه يرفع آذان المغرب حتى ينقض هذا الجمع الغفير في لمح البصر وكأن الأرض إبتلعتهم.