لأن القرآن يجمع بين الإعجاز المتجدد والمنهجية الدستورية التشريعية العاصمة، وذلك في ظاهرة لم توجد في الكتب السابقة لذا فإن القرآن الكريم هو المعجزة الأولى التي جذبت جموع العالمين للدخول في دعوة الصادق الأمين-صلى الله عليه وآله وسلم-، كما هو في الوقت ذاته الكتاب الذي يضع المبادئ الدستورية، والتشريعات والقوانين الحياتية في ميادين الأحكام والآداب معا، وذلك أمر فريد اتسم به هذا الكتاب المعجز كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ*وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ*أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت:48-51). وسر هذه العظمة القرآنية أنه كلام الله المحفوظ كما قال الداني في أرجوزته المنبهة: واعلم هديت الرشد والتوفيقا وكنت ممن يسلك الطريقا بأن درس المرء للقرءان من أفضل الأعمال للرحمن لأنه كلامه عز وجل سبحانه سبحانه الرب الأجل وقالوا : وأن ما جاء مع جبريل من محكم القرآن والتنزيل كلامه سبحانه عظيم أعيى الورى بالنص يا عليم وليس في طوق الورى من أَصله أَن يستطيعوا سورة من مثله وكلما ازداد المرء بالقرآن إيمانا وله تدبراً انكشفت له من أنواره، وانفلقت له من أسراره ما يربط قلبه ولبه، ولذا قال مالك بن دينار: أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه. .. سلطان القرآن يتملك قلوب مستمعيه بسبب هذا الإشعاع الفريد للنور القرآني تملك القرآن قلوب مستعيه فمنهم من جذبته أنواره ورياضه وأزهاره، ومنهم من فكر وقدر ثم أدبر واستكبر، ومن الحوادث التي دلت على ذلك: -سمع نفر من الجن القرآن، فأثمر في قلوبهم الإيمان، فقاموا يرفعون أصواتهم إعجابا به في الإنس والجان، وحكى الله عنهم فقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا*يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (الجن:1-2). -وفي البخاري حكاية عن مدى تأثر جبير بن مطعم بالقرآن مع أنه وقت سماعه له كان باقيا على عبادة الأوثان حيث قال عن نفسه رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآيةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير. – روى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني، وكذا رواه البيهقي في شعب الإيمان –بسند جيد كما قال العراقي في تخريج الإحياء- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: ياعم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيدا}. -ورواه البيهقي من وجه آخر عن ابن عباسٍ أتم من ذلك: حين اجتمع الوليد بن المغيرة ونفر من قريش، وقَد حضر الموسم ليجتمعوا على رأي واحد فيما يقولون: في محمد صلى اللَّه عليه وسلم لوفود الْعرب، فَقَالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به، فَقَال: بل أنتم فقولوا: أسمع فَقَالوا: نقول كاهن. فَقَال: ما هو بكاهن. لقَد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره، فَقَالوا: نقول مجنون. فَقَال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون، وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، فَقَالوا: نقول شاعر قَال: ما هو بشاعر، ولقد عرفنا الشعر برجزه وهزجه، وقَريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر قَالوا: فنقول هو ساحر قَال: فما هو بساحر لقَد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، فَقَالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس قَال: والله إن لقَوله لَحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإِن فرعه لَجنى، فما أنتم بقَائلين من هذا شيئا إلا عرف أَنه باطل، وإِن أقرب القَول أن تقولوا: ساحر يفرق بين المرء، وبين أبيه وبين المرء، وبين أخيه وبين المرء وبين زوجته، وبين المرء وبين عشيرته فتفَرقوا عنه بذلك، فأنزل الله عز وجل في الوليد بن المغيرة {ذَرْنِي، وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (المدثر:11) إلى قَوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر:26). -وفي دلائل النبوة للبيهقى أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا! فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس بن شريق. -وروى البيهقي عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت رسول الله أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله فقال رسول الله لأبي جهل: (يا أبا الحكم! هلم إلى الله عز وجل وإلى رسوله أدعوك إلى الله). قال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت. فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك. فانصرف رسول الله، وأقبل عليَّ فقال: فوالله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا فينا الحجابة. فقلنا: نعم. فقالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي. والله لا أفعل. -وفي سيرة ابن إسحاق عن النضر بن الحارث قال: يا معشر قريش انه والله قد نزل بكم أمر ما أشلتم له نبله بعد. لقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم ساحر. ولا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن. ولا والله ما هو بكاهن. وقد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر. ولا والله ما هو بشاعر، ولقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه رجزه وقريضه، وقلتم مجنون. ولا والله ما هو بمجنون. ولقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش انظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم. ولهذا السلطان للقرآن على عقول بني إنسان قالوا: لَم يمتحنا بما تَعي الْعقول به حِرصًا علينا فَلم نرتب ولَم نهم أعيا الورٰى فَهم معناه فليس يرٰى للقرب والبعد فيه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد صغيرةً وتكل الطرف من أمم